عندما نتساءل: لماذا لا يقرأ العرب؟ نقصد هنا القراءة الحرة وليس القراءة المنهجية أو الوظيفية، أي أننا نتحدث عن القراءة التي يلجأ إليها الإنسان وفق اختياره وبحريته وبملء إرادته وبما يتوافق مع ميوله وهواه، وليست القراءة المقرَّرة عليه أو الحتمية بسبب الدراسة أو بحكم الوظيفة. كما أن تعميم السؤال جاء بسبب أنها ظاهرة تزداد يوماً بعد يوم، فمعظم العرب لا يقرؤون، إنها حالة أصابت أمة القرآن الذي نزلت أول سورة منه تدعو إلى القراءة. بجانب هذا السؤال المشروع، تبرز أسئلة أخرى أشد وطأة: لماذا نقرأ؟ وماذا نقرأ؟ وكيف نقرأ؟ وما فائدة كل معارض الكتب المنتشرة في العالم العربي من محيطه التجاري إلى خليجه النفطي؟ منذ أيام قليلة أغلق معرض الكتاب الدولي في العاصمة الإماراتية أبوظبي أبوابه بعد أن أنهى دورته التاسعة عشرة، وشارك فيه أكثر من 637 دار نشر من 52 دولة، تعرض ملايين العناوين لكتب متنوعة تغطي كافة مناحي الحياة، وهذا المعرض يأتي ضمن سلسلة كبيرة من معارض الكتب التي تنظمها دول عربية كثيرة على مدار العام، ورغم هذه الظاهرة والتظاهرة الثقافية المتكررة فالحقيقة الأليمة تشير إلى أن العرب لا يقرؤون. وقبل أن نتعرَّض لبعض أهم الأسباب الكامنة وراء عزوف الإنسان العربي عن القراءة، نتذكر كلمة لموشي ديان وزير الدفاع الإسرائيلي في ستينيات القرن الماضي قالها عقب نكسة يونيو 1967، وبعد النجاح الإسرائيلي الكبير في هزيمة ثلاثة جيوش عربية: "العرب لا يقرؤون، لأنهم إذا قرؤوا فسوف يعلنون الاستسلام الفوري لجيش الدفاع الإسرائيلي". تلك كانت كلمات العدو، لكن الكتاب والصحفيين والمؤلفين العرب أضافوا إليها كلمات أخرى، تدل على مدى تردِّي الوضع العربي: "إن العرب لا يقرؤون، وإذا قرؤوا لا يفهمون، وإذا فهموا لا ينفذون، وإذا نفذوا يفشلون". إنها "متوالية كلامية" مركبة للدلالة على "صناعة الفشل" عند العرب، لكن من المهم أن ننتبه إلى أن بدايتها تكمن في عدم القراءة، لذلك فمن المهم أن نعرف بدايةً لماذا لا يقرأ معظم العرب؟ ربما تكون هناك أسباب كثيرة ومتنوعة، بعضها حقيقي ومؤثر وبعضها الآخر حجج واهية يجب تجاوزها، لعدم إقبال العرب على القراءة، بعضها نابع من التنشئة ومسؤوليتها تقع على الأسرة والمدرسة، والبعض الآخر بسبب البيئة المحيطة وتقع مسؤوليته على الجهات المعنية بالتعليم والثقافة والإعلام في الدولة. ربما تكون أهم أسباب عدم إقبال العرب على القراءة الآتي: * الظروف المعيشية لمعظم الأسر العربية، ومعاناة البحث عن لقمة العيش التي أغرقت الناس في الهموم اليومية وشغلتهم عن الاهتمام بأي شيء آخر خاصة القراءة. لكن من الغريب أن القراءة تزيل الهموم من خلال منحها العقل الفرصة للتفكير السليم لحل المشكلات والطريقة المنطقية لمواجهة الأزمات، كما أن القدرة المادية لم تكن يوماً عائقاً عن القراءة في حال توافر المكتبات العامة وانتشار المكتبات في المدارس والجامعات. * اعتبار البعض أن القراءة متعة أو رفاهية لا يقدر عليها سوى الأغنياء أو من لديهم الوقت. وهذا أمر غير واقعي، فليست القراءة حكراً على فئة من المجتمع دون أخرى، وعملية تنظيم الوقت يسهل تنفيذها إذا توافرت الإرادة الشخصية لذلك. * عدم تعوُّد الفرد على القراءة، وربما عدم القناعة بجدوى القراءة، وهنا يأتي دور الأسرة أولا في تشجيع أبنائها على القراءة وإعطاء المثل والقدوة في ذلك، ثم تقوم المدرسة بعد ذلك بدورها في تخصيص حصص دراسية للمكتبة وتشجيع التلاميذ على تلخيص الكتب وعرضها على زملائهم في شكل حكاية مروية ومنحهم ميزات على ذلك. * أن الموضوعات والقضايا التي تتناولها الكتب لا تشبع رغبات السواد الأعظم من الناس ولا تتعرض لمعاناتهم، وإذا جرى أحياناً تناولها فإن هذا التناول ربما يكون سطحياً. ولكن هذا الكلام مردود عليه من خلال التنوع الكبير في عناوين الكتب فضلا عن كثرة عدد الكتاب، ويمكن انتقاء المتعمق والدقيق والجاد في تناوله لموضوعاته. * ارتفاع سعر الكتب مقارنة بدخل الفرد، وهو موضوع يحتاج إلى أن تتدخل الحكومات العربية لدعم الكتاب واعتبار هذا الأمر مساوياً لتوفير لقمة العيش، حتى يتساوى غذاء العقل مع تنمية البدن، فضلا عن إمكانية التوسُّع في إنشاء المكتبات العامة شريطة أن تتوافر بها أحدث الكتب. * أن الكتاب تراجعت أهميته وفقد بريقه في مقابل نشاط وسائل الإعلام المرئية والمسموعة وشبكة الإنترنت. لكن هذه المقولة غير واقعية، فوسائل الإعلام أضحت تضج بالتسلية والترفيه وغاب دورها في تثقيف الرأي العام وصياغة توجهاته تجاه القضايا الاستراتيجية والحيوية، كما أن الإنترنت عبارة عن شبكة معلومات ربما تكون سبباً لقراءة الكتب وليس العكس. وإذا انتقلنا إلى سؤالنا الرئيسي: لماذا نقرأ؟ سنجد أن الدوافع والمبررات كثيرة يصعب حصرها، إلا أن من أهمها: * القراءة مفتاح العقل وأساس المعرفة، وهي تزيد من قدر الإنسان ثقافياً وتتيح له فرصة الاطلاع على خبرات الآخرين وتجاربهم. * زيادة الإدراك والفهم للقضايا والمتغيرات المحلية والإقليمية والدولية، بما يسمح باتخاذ قرار صائب يتوافق مع مصالح الأمن الوطني. * المساعدة في تكوين الشخصية، حيث القراءة تُعلم القيم والمبادئ وترقى بأسلوب الحديث والتخاطب، وتدعم النضج وبلورة الأفكار. * الإلمام بالثقافات الأخرى والتعرف على أبعاد ومجالات متعددة في وقت قصير، وزيادة التحصيل العلمي والمعرفي. * التشجيع على الابتكار والإبداع، حيث تفتح القراءة الآفاق الفكرية والعقلية، وتشحذ الهمم للبحث والدراسة المعمقة. * شغل أوقات الفراغ والوقت الضائع في المواصلات أو في الانتظار، بما يعود بالنفع الشخصي. من الغريب أن أمة القرآن الكريم التي أتى أول وحيها أمراً من الله سبحانه وتعالى بالقراءة، لا تقرأ، ويكتفي قليل من أبناء هذه الأمة بقراءة الصحف والمجلات، وهو أمر لا يستقيم مع التكليف الإلهي، لذا فإن على الأهل تشجيع الأبناء على القراءة من خلال توفير الكتب التي تتناسب مع ميولهم وأعمارهم، وحثهم على الذهاب إلى المكتبات ومعارض الكتب والتأكيد على أهمية القراءة ودور الكتاب في حياة الإنسان. ثم يأتي دور المدرسة والاهتمام بوجود مكتبة لا تقتصر وظيفتها على الزيارات والدعاية بل تكون مصدراً حقيقياً للمعرفة، هذا بالإضافة إلى مبادرات الدولة، بدعم سعر الكتاب أو بتنظيم المسابقات في القراءة الحرة لعدد معيَّن من الكتب، أو بمنح المتفوقين من التلاميذ مكتبة منزلية بها مجموعة مختارة من الكتب. يجب أن نعترف أن عادة القراءة لا تأتي من تلقاء نفسها، فهي عرف وتقاليد يتوارثها الأبناء عن الآباء، أي أنها تربية وعادة تبدأ بتشجيع الأهل مروراً بدور المعلم وصولا إلى دور الدولة في توفير الكتب المناسبة لكل الأعمار، على أن تغطي مختلف مجالات المعرفة لزيادة مساحة الاختيار وحرية الانتقاء، وبما يتناسب مع التقاليد والأعراف السائدة دون حجر على رأي أو مصادرة لفكر، لأن التربية هنا هي التي ستقود حرية إرادة القراءة وتضمن حسن الاختيار وعدم الانزلاق إلى مثالب الفكر الخاطئ أو المتطرف. إن الكتاب هو الرفيق الذي تستطيع أن تتركه وتعود إليه في أي وقت دون أن يتذمر أو يشكو، وتستطيع أن تختلف أو تتفق معه دون خصومة أو جفاء، وهو الصاحب في السفر دون أعباء، وهو الصديق الذي تستطيع أن تصادق مع صداقته أي عدد دون أن يتبرم أو يشكو، وتستطيع أن تتعامل معه في الشدة والغضب والانفراج والسرور، ويأتي بالعالم إليك دون أن تطلب منه ذلك، كما يمكنك اقتناؤه أو إهداؤه وفي الحالين خير كثير.