هناك شواهد تاريخية على كثرة الأمراض النفسية والاضطرابات العقلية بين قادة العالم منذ فجر التاريخ. وليس غريباً في تاريخ الرئاسة الأميركية أن يكون الرئيس أو نائبه عانى من اضطراب نفسي قبل أو أثناء توليتهما للمنصب الرسمي. في يناير 2006، وفي مجلة "الأمراض العصبية والنفسية"، قام الدكتور ديفدسون وزميلاه من قسم الطب النفسي بجامعة "ديوك" بمراجعة التقارير الطبية والسير الذاتية للرؤساء الأميركيين بين عامي 1776 وحتى 1974. هذه الحقبة الزمنية شملت 37 رئيساً أميركياً من جورج واشنطن وحتى نيكسون. الباحثون وحرصاً على الموضوعية وصفوا بدقة كيف كانت إجراءات التشخيص بأثر رجعي، وكيف أنهم اعتمدوا على مجموعة أخرى مستقلة ليست معنية بنتائج الدراسة. خلصت الدراسة إلى أن 49 في المئة من الرؤساء الأميركيين يعانون من اضطرايات نفسية، وهي نسبة عالية، تعادل ضعف نسبة الإصابة بالاضطرابات النفسية لسكان الأرض حسب إحصائيات منظمة الصحة العالمية. الاكتئاب تصدر قائمة الأمراض الأكثر شيوعاً بين الروساء الأميركيين بنسبة 24 في المئة، تلاه اضطراب القلق بنسبة 8 في المئة، ثم اضطراب المزاج ثنائي القطب Bipolar Disorder بنسبة 8 في المئة، وهو نفس معدل الاستخدام المفرط للكحوليات والأدوية المخدرة. الملفت أن 27 في المئة من الرؤساء قد عانوا من الاضطرابات النفسية وهم على رأس العمل. الملفت أن ثلاثة من الآباء المؤسسين قد عانوا من بعض أشكال المرض النفسي جيفرسون، أول وزير خارجية، وكاتب الدستور الأميركي، وثالث رئيس للاتحاد كان مصاباً بالرهاب الجماعي، وقبله الرئيس الثاني "جون آدمز"، الذي عانى من اضطراب المزاج ثنائي القطب. وإذا تجاوزنا حقبة الآباء المؤسسين، نفاجأ بأن اضطراب المزاج ثنائي القطب، قد أصاب أيضاً المؤسس الثاني لأميركا، موحد البلاد ومحرر السود، وأول رئيس أميركي يغتال. إنه الرئيس السادس عشر أبراهام لنكلون 1809-1865. وصف لنكلون معاناته بإسلوب أدبي رائع، وكان كلما ناوبه الاكتئاب انصرف عن الناس، ليخرج بعدها بأيام مفعماً بالحياة والنكتة القصيرة. كان البعض يرى أن إصابة لنكلون بالمرض نتجت عن وفاة أمه وأخته وهو طفل، وفوق ذلك وفاة محبوبته الأولى "آن روتلج". مانعرفه اليوم في الطب النفسي يؤكد أن لديه قابلية جينية للمرض. عانى الرئيس السادس والعشرون تيودور روزفلت 1985-1919 من ذات المرض. الرئيس الخامس والثلاثون لأميركا جون كينيدي (1961-1963) كان يعاني من مرض نقص نشاط الغدة الكظرية، وهو اضطراب في إفراز الهرمونات الشبيهة بالكورتيزون، ولم يكشف عن هذه المشكلة أثناء الحملة الانتخابية، بل إنه في حواره الأخير في الحملة الانتخابية مع منافسه ريتشارد نيكسون، قد تعاطى جرعة عالية من الأمفيتامين المنشط إضافة إلى الكورتيزون. وكان مبهراً أكثر من منافسه. استمر كينيدي في تعاطي جرعات يومية من عقار الأمفيتامين عن طريق الحقن طوال فترته الرئاسية بمساعدة طبيبه الدكتور جاكوبسون، الذي كان هو أيضاً يحقن نفسه بالأمفيتامين. ويرى اللورد الطبيب "أوين"، وهو من أشهر المهتمين بدراسة صحة قادة العالم أن الدكتور جاكوبسون قد أسرف في إعطاء كينيدي العديد من الأدوية بما فيها حقن المسكن القوية. ويستنتج أن بعضا من تصرفات كينيدي غير الموفقة كما في حرب خليج الخنازير، وكذلك أثناء لقائه بالرئيس السوفييتي خورتشوف، هو من تأثير هذا الإسراف في استخدام المنبهات والمسكنات العصبية. استطاع كينيدي بمعونة شقيقة بوب أن يقلل من تعاطيه لهذه المواد، وانعكس هذا إيجابياً على تصرفاته وسياسته، وبعد اغتياله لم يغفر بوب كينيدي للدكتور جاكوبسون الذي حوكم وعلقت رخصته الطبية. أما نيكسون فقد عانى من إدمان الكحول بعد فضيحة "ووتر جيت". لم تُجر دراسة تحاول أن تدرس الحالة النفسية للرؤساء الأميركيين بعد نيكسون، لكننا نعلم أن ريجان مات من مرض خرف الزهايمر، أما بوش الابن فكان كحولياً طيلة شبابه. أوباما أيضاً تعاطى العديد من المخدرات، كما ذكر هو في كتابه (من أحلام أبي)، لدرجة أن بعض الصحفيين مثل "ديفيد بروكس"، لمح إلى أن أوباما ربما بالغ في قصة تعاطيه المخدرات أثناء شبابه تقرباً للناس، وكأنه يقول أنا مثلكم عانيت من كل الذي قد أتعبكم. هذا التحليل من "بروكس"، قد يكون بعيداً عن الصواب. ذلك لأن أوباما قد كتب عن نفسه في وقت باكر، وربما حينها لم تكن الحملة الانتخابية حاضرة وهو يكتب كتابه الأول. وفوق هذا، وكما يبدو من سيرته، فإن المشكلة تعاظمت لدرجة أن الجدة والأم قد أحسا بها، وصارتا عوناً له للتخلص من هذه العادة. ولم يبق له من تبعات تلك المرحلة إلا عادة التدخين التي يقول إنه استبدلها بعلكة النيكوتين. بايدن: مر بتجربة مختلفة، طاردته الصعوبات منذ طفولته. تأخر نطقه وعانى طويلا من التعتعة، وهو وإن برئ منها تماماً، بل وأصبح خطيباً مفوهاً، فهو لايزال الرئيس الفخري لرابطة المتعتعين في أميركا، ويحضر اجتماعاتهم السنوية. مشكلة "بايدن" مع المرض النفسي، حدثت بعد أيام من انتخابه في مجلس الشيوخ عن ولاية ديلاور، وهو في أول الثلاثين من عمره. قبيل أن يؤدي القسم الدستوري، أبلغ أن زوجته وابنته ماتتا في حادث سيارة في ولايته أصابه بانهيار عصبي وأراد أن يترك السياسة بالكلية. وصف نفسه كيف يمشي في الغابة دون هدف شاعراً بعبثية الحياة، ولا يفتأ يفكر في اللحاق بزوجته وطفليه. لا ندري إن كان بايدن عولج طبياً من تلك الحالة. المهم أنه أستأنف حياته وتزوج وانجب وهو نائب الرئيس، إلا أن طول خدمته الحكومية النزيهة، جعلت منه ثاني أفقر عضو في الكونجرس. المفاجأة ليست هنا: هاري ترومان الرئيس الذي لم يعرف عنه أي اضطراب نفسي. وفي عهده وقعت اليابان استسلامها، وهو صاحب مشروع مارشال، هو نفسه الذي اعتمد إنشاء المعهد الوطني للصحة العقلية، ليصبح أكبر منشأة صحية في العالم، تدعم البحث العلمي لفهم العقل البشري وأمراضه. في كل دراسة يثبت أن المرضى النفسيين ممثلون بقوة في دوائر السياسة والعلم والفن بنسب تفوق نسبتهم إلى مجمل السكان، كل هذا يستدعي سؤالا آخر عن علافة المرض النفسي بالإبداع.