خلال جلسة الاستماع التي عقدها مجلس "الشيوخ" الأسبوع الماضي، لإجازة تعيينه في منصبه الجديد كوزير خزانة بإدارة أوباما، وصف "تم جيتنر" الصين بأنها دولة تتلاعب بقيمة عملتها. وهذه الصفة لم يسبق لإدارة بوش أن ألصقتها بالصين رسمياً خلال سنواتها الثماني. وربما يشير هذا التوصيف الجديد إلى تحول مثير للأعصاب في علاقات أميركا بأهم شريك اقتصادي حيوي لها: الصين. وقد أصاب "جيتنر" في وصفه للصين بأنها دولة تتلاعب بقيمة عملتها. بل أكثر من ذلك، يعتقد أن هذا التلاعب يتحمل المسؤولية الأكبر عن نشوء الأزمة المالية العالمية الحالية. فاعتباراً من أواسط العقد الحالي، تمكنت الصين من تحقيق فائض تجاري هائل، بفضل انخفاض عملتها. وقد ضخت عائدات ذلك الفائض التجاري، إلى أميركا، ما أدى لانفجار فقاعة القطاع العقاري. ومن ناحيتهم يحتج القادة الصينيون بالقول إن بلادهم تحولت إلى كبش فداء دون وجه حق. وعلى رغم كثرة الخلافات وتعدد الآراء بين المحللين حول جذور ومسببات الأزمة المالية العالمية، فإن أياً من الحجج المثارة لم تبلغ قدرتها على الإقناع مثلما يفعل السهم الصيني في هذه الأزمة. وأولى هذه الحجج هي تلك التي تعيد جذور الأزمة ومسبباتها إلى فشل النظم التي تحكم نشاط المؤسسات المالية الأميركية. وعلى رغم صحة وجود هذا الإخفاق، فإن معظمه ظل موجوداً منذ سنوات طويلة، دون أن يتسبب في حدوث أزمة بهذا الحجم. كما أن انفجار الفقاعة العقارية لم يصل ذروته إلا بين عامي 2005-2007، وهي الفترة التي بدأت فيها الصين إغراق العالم كله برؤوس الأموال الرخيصة. فوق ذلك، فإن الفشل التنظيمي لا يوجد في جهة واحدة من الجهات المعنية بتنظيم الأسواق والمؤسسات المالية، إنما في الكثير منها. فعلى سبيل المثال عجزت "لجنة البورصات" عن تقدير ومراقبة المخاطر التي ينطوي عليها نشاط الوسطاء والمتعاملين في مجال الاستثمار المالي مثل شركة "بير ستيرنز". كما فشل البنك الاحتياطي الفيدرالي في فرض رقابته على ضخ البنوك لأموال طائلة على الأسهم المسمومة، التي كانت تحتفظ البنوك نفسها بموازناتها. ولم يكن أداء الجهات الأوروبية أفضل حالاً عما عليه نظيرتها الأميركية، على رغم تبني الجهات الأوروبية لنظام أكثر حداثة لمعايير رؤوس الأموال. والدرس العام الذي يمكن استخلاصه من نظم الرقابة المالية في كل من أميركا وأوروبا هو: لا سبيل لتجنب انفجار الفقاعات الاقتصادية، مهما كان مستوى أداء النظم الضابطة للنشاط المالي، متى ما أغرقت الأسواق برؤوس الأموال الرخيصة. أما الحجة الثانية المثارة فترد أسباب الأزمة المالية الحالية إلى الضغوط الاقتصادية، أكثر من أن تردها إلى إخفاق النظم المالية. ثم إنها تنحي باللائمة عن الأزمة هذه، على خطأين داخليين أميركيين، أكثر من أن تلقي بها على تدفق رؤوس الأموال الصينية الرخيصة إلى أسواقنا. وفقاً لهذه الحجة كان أحرى بالأميركيين وضع الضوابط والكوابح اللازمة لذلك الإغراء المالي، بما يمكنهم من تقليص استدانتهم من الصين. وضمن ذلك، كان على البنك الاحتياطي الفيدرالي رفع معدلات فائدته بهدف الحد من نهم الاستدانة بتلك "الأموال الرخيصة". وفيما لو كان نهم الأميركيين الذي لا يشبع للديون هو ما يفسر تدفق رؤوس الأموال الصينية إلى بلادهم، لرأينا الدليل على ذلك واضحاً في ارتفاع أسعار الفائدة المفروضة على تلك الديون، أي أن نرى ارتفاعاً ملحوظاً لأسعار الفائدة على السندات المالية المطروحة في الأسواق. ولكن الملاحظ أن أسعار السندات ظلت على انخفاض مذهل منذ منتصف العقد الماضي. وهذا ما يؤكد أن عروض الديون هي التي ارتفعت خلال الفترة الماضية، وليس الطلب عليها. ذلك أن رؤوس الأموال الصينية لم تتدفق بكل هذا الحجم في أسواقنا الأميركية، إلا بسبب الدفع والضغوط التي تمارسها الصين، وليس بسبب قوة جاذبية وإلحاح الأسواق الأميركية. والسؤال: هل كان في وسع البنك الاحتياطي الفيدرالي، رفع معدلات فائدته بما يجنب القطاع العقاري انفجار فقاعته؟ صحيح أن السياسات المالية للبنك الاحتياطي رخوة للغاية. لكن و كما قال "مارتن وولف" في كتابه الصادر للتو "معالجة أزمة المال العالمي"، فإنه ليس واضحاً ما إذا كان بمقدور رفع أسعار الفائدة الحؤول دون حدوث الأزمة هذه. فطالما عقدت الصين العزم على تصدير كميات كبيرة من رؤوس أموالها، فكان لا بد لتلك الأموال أن تصدر إلى مكان ما. وهكذا يلاحظ في الحجتين أعلاه أنهما لا تقتربان مطلقاً من تحميل الصين مسؤولية ما حدث. والمعروف عن الصين -شأنها شأن بقية النمور الآسيوية- أنها تعتمد على استراتيجية نمو اقتصادي قوامها التصدير. ولكن الاختلاف الرئيسي بين الصين والنمور الآسيوية، أن اقتصاد الأولى من الكبر بحيث يستحيل عليها اتباع نهج الاستراتيجية الاقتصادية هذه، دون زعزعة الاقتصاد العالمي. والسؤال هنا: لأي مدى يمكن أن تكون الدبلوماسية مفيدة في دفع الصين إلى تغيير هذا النهج؟ في الإجابة: يذكر أن إدارة بوش كانت قد حاولت وفشلت مساعيها الدبلوماسية. فهل للإدارة الجديدة أن تنجح في ما أخفقت فيه إدارة بوش؟ من الخطأ ابتداء الاعتقاد بأن طاقم أوباما الجديد، سيكون أشد حزماً في تعامله مع الصين. فمهما كان حجم الضرر الناتج عن سياسات الصين المالية، فليس من المفيد محاولة فرض عقوبات اقتصادية عليها. والسبب واضح جداً: فآخر ما يرغبه العالم هو اندلاع حرب تجارية بين دوله. أما السبب الثاني، وهو ما عبر عنه "جيتنر" مؤخراً بوضوح، فيتلخص في أولوية استئناف دورة النمو الاقتصادي العالمي. وللسببين معاً من الأجدى محاولة إقناع الصين بتوسيع حوافزها المالية لهذا النمو، بدلاً من إرغامها على إعادة تقييم عملتها. وإلى جانب ذلك، فإن إصلاح سياسات أسعار الفائدة الصينية، ليس هو السبيل الوحيد والأمثل لتغيير النمط الاقتصادي الصيني القائم على ارتفاع نسبة المدخرات وعوائد الصادرات. وعلينا أن ننظر إلى الأمر من زاوية الدرس الذي تعلمته منظمة "أوبك" في بدايات عقد الثمانينيات. فقد تعلمت الدول المصدرة للنفط حينها، درساً مفيداً للغاية من هزتين نفطيتين حدثتا في ذلك الوقت: إن لقوة المنظمة ونفوذها على السوق حدوداً وسقفا. فما أن غالت المنظمة في رفعها لأسعار النفط، حتى استجابت أسواق العالم سلباً بتراجع استهلاك الوقود وانخفاض مبيعات السيارات، وميل المستهلكين لشراء السيارات الصغيرة الاقتصادية في استهلاكها للوقود. وبذلك تعلمت أوبك الخوف من تمرد المستهلكين. فهل في هذا الدرس ما ينفع القادة الصينيين؟ --------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"