هل حاولتم البحث على شبكة الإنترنت عن جملٍ مثل "أنا أعتذر"، أو "نحن نعتذر"، أو ما شابهها؟ ابحثوا، وستعثرون على ملايين الأجوبة. من بين المواقع الإلكترونية الأولى باللغة الإيطالية التي دخلتها أبحث عن تلك العبارة، وجدت اعتذار الكنيسة الكاثوليكية إلى ضحايا الكهنة الذين اعتدوا جنسياً على أطفال، واعتذار الممثلة الشهيرة "غوينيث بالترو" إلى ناشطي حقوق الحيوان لارتدائها الفرو في أحد الإعلانات، وطلب الكنيسة الأنجليكانية السماح من داروين لردّها سابقاً بعدائية على نظرياته حول أصل الأنواع والانتخاب الطبيعي. كما عثرت على اعتذار ولاية فرجينيا الأميركية لممارستها الاستعباد بحق السود الأفارقة، واعتذار شركة "وارنر بروس" إلى محبّي هاري بوتر لتأجيلها موعد إطلاق فيلم "هاري بوتر والأمير الأخيَف" (Harry Potter and the Half-Blood Prince)، إضافةً إلى اعتذار شركة "آبل" إلى زبائنها لسوء خدمتها. ناهيك عن اعتذار رجل عصابة إيطالي إلى مهاجر صيني للتعرض إليه بالضرب، واعتذار الحكومة الكندية الرسمي إلى الطلاب السابقين في المدارس المخصصة للسكان الأصليين والتابعة للكنيسة، للمعاناة التي سبّبتها لـ150 ألف طفل على الأقل، واعتذار مماثل من الحكومة الأسترالية إلى سكان أستراليا الأصليين. كما وقعت على اعتذار رام إيمانويل، كبير موظّفي البيت الأبيض الجديد، إلى مجموعة عربية أميركية مناهضة للتمييز لتعليقات مناهضة للعرب صدرت عن والده، فضلاً عن اعتذار شركة "فيات" إلى بكين لذكرها التيبت في إعلانات سيارتها الجديدة، "لانسيا دلتا". والعديد من الاعتذارات التي تجدونها على الإنترنت، وربما بلغ عددها الملايين وقد تمّ تقديمها على مرّ الأعوام، ولذلك تقعون أيضاً على طلب رئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو برلوسكوني السماح من زوجته لأنه غازل نساء أخريات، واعتذار البابا بنديكتوس السادس عشر إلى المسلمين لقراءته مقاطع من نص يعود إلى القرون الوسطى وجده البعض مهيناً للإسلام ويحمل اتهاماً له بالعنف، فضلاً عن اعتذار البابا يوحنا بولس الثاني إلى غاليليو لاتهام الكنيسة لذلك العالم بالهرطقة (حينما عادت الأرض بسرور تدور حول الشمس). وإليكم آخر الأخبار ذات الصلة. في مقابلة أجراها مقدّم الأخبار في محطة "أي بي سي" (ABC) التلفزيونية "تشارلي غيبسون" مع الرئيس الأميركي جورج بوش، كاد هذا الأخير يعتذر إلى الشعب الأميركي لشنّه الحرب على العراق (والتي حصدت أرواح آلاف الجنود الأميركيين، وبضع مئات من جنود الحلفاء، وآلاف آلاف المدنيين العراقيين، وتسبب بإصابة غيرهم الكثيرين)، حتى أن بوش اعترف بأن صدام حسين لم يكن يطوّر أسلحةً نوويةً، وبأن الاستخبارات الغربية أخطأت التقدير في هذا الخصوص. لا أدري إن كان التواضع المسيحي هو السبب وراء موجة تقديم الاعتذارات، أو إن كانت هذه الأخيرة هي مجرّد جسارة شخصية لدى البعض. فيرتكب أحدٌ فعلةً ما كان عليه ارتكابها، ثم بعد ذلك يعتذر غاسلاً يديه من الذنب المقترَف. أتذكّر هنا دعابةً قديمةً عن راعي بقر كان يجتاز الحقل على صهوة جواده، فسمع فجأةً صوتاً يطلب منه الذهاب إلى مدينة أبيلين. وحين بلغ المدينة طلب منه الصوت نفسه دخول الحانة والمراهنة بماله كله على الرقم 5 على دولاب القمار. تردّد راعي البقر هذا إلا أنّه لم يستطع مقاومة الصوت العلويّ فأذعن له. لكنّ الكرة توقّفت عند الرقم 18، وعندئذ همس له الصوت معتذراً: "آسف، لقد خسرنا". لكن وقاحة البعض قد تحول دون تعبيرهم حتى عن مجرد الأسف، ذلك أننا نعيش في أيام قلّ فيها الحياء إن لم نقل إنه انعدم تماماً. فترى أشخاصاً قيد التحقيق للاشتباه بهم في عمليات احتيال يقصدون الملاهي الليلية أو المطاعم ببرودة أعصاب، أو يظهرون على شاشات التلفزيون، أو حتى يوزّعون التواقيع على جمهور المعجبين. وترى مسؤولين عن إفلاس عائلات بأسرها يتنقّلون كالمعتاد بطائراتهم الخاصة، وكأنهم لم يقترفوا أي ذنب! هذا ناهيك عن أولئك الذين تملّصوا من عقاب التاريخ، بطرق ملؤها الاحتيال والنصب. فحين شنّ بوش هجومه على العراق، كثر معارضوه، حتى أنّ الفرنسيين رفضوا التورّط إلى جانبه في الحرب. لكن سرعان ما عمد العديد من المعلّقين الأوروبيين "النزيهين" إلى تصنيف كلّ مَن أبدى خوفاً حيال الاجتياح الأميركي بالإرهابي، وبالعميل لأسامة بن لادن. وقد حصل هذا في أوروبا لا الولايات المتحدة حيث كان الجميع تحت وقع الصدمة إثر أحداث 11 سبتمبر، وحيث أصبحت البطاطا المقلية المعروفة بـ"البطاطا الفرنسية" تعرف بـ"بطاطا الحرية". ولا تقف المسألة عند هذا الحدّ. فعندما أعلن بوش مزهواً الانتصارَ في الحرب على العراق، وهو كذبة سخيفة أخرى ودليل واضح لكلّ مَن يتمتّع بحكم صائب، كتب مناصروه الإيطاليون مقالات ساخرةً انتقدوا فيها المشكّكين في مشروعية الغزو الأميركي قائلين: "أرايتم؟ كنا على حق". لكن تلك حجةٌ لا تصدَّق، فما من مبرّر لشنّ الحرب على العراق أصلاً، حتى وإن نجحت في كسر العراقيين وهم يقاومون احتلال بلدهم. لقد انتصر هيلر في معاركه كلها في الأعوام الأولى من حملته، إلا أنّه أخطأ، بل كان يتصرف ضد الحق والمشروعية والأخلاق. فيا ترى ماذا ستكون عليه ردّة فعل أولئك الذين يفتقرون إلى الحياء، هنا في إيطاليا، عندما يطلب بوش السماح عما اقترفت يداه من أخطاء فادحة؟ -------- ينشر بترتيب مع خدمة "نيويورك تايمز"