الخليج وقمة الاستحقاقات المتأخرة
تنعقد في مسقط فعاليات القمة التاسعة والعشرين لدول مجلس التعاون الخليجي. وكما نقول ونكرر عشية انعقاد كل قمة، فهي تنعقد أيضاً في ظروف استثنائية وصعبة ومعقدة مقارنة مع تلك التي واكبت قمة الدوحة في ديسمبر من العام الماضي.. فالظروف مختلفة إلى حد ما في أبعادها الاقتصادية والأمنية والإقليمية والدولية، وتصبغ المشهد الخليجي تداعيات الأزمة الاقتصادية الحادة وانهيار أسعار النفط بأكثر من 75% خلال أشهر قليلة، والنزيف القاتل في سوق الأسهم في بورصات الخليج، ومطالبات الإدارة الأميركية القادمة التي عبّر عن فحوى استراتيجيتها مؤخراً وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس بأن تضم دول مجلس التعاون الخليجي العراق، زيادة على احتضانه وإسقاط الديون عنه وفتح السفارات وإرسال السفراء إلى بغداد لانتشال العراق من مأزقه. ومن حقنا أن نسأل: هل تداعيات الشأن العراقي والتراجع في حدة العنف أمر وقتي أم سيكون نهجاً مستديماً؟ هناك مخاوف من تفتت العراق على خطوط مذهبية وطائفية وإثنية وسط قلق خليجي من انعكاسات الاتفاقية الأمنية بين واشنطن وبغداد (صوفا) التي تنص على سحب القوات الأميركية في نهاية 2011 على أمن المنطقة ككل.
تُعقد القمة الخليجية التاسعة والعشرون عشية التغيير الكبير في البيت الأبيض بمغادرة الرئيس بوش وقدوم الرئيس باراك أوباما إلى البيت الأبيض. ومثل هذه الظروف في المشهد الدولي، كالعادة، استثنائية، والتحديات التي تكتنفها كبيرة ومتنوعة المجالات، من أمنية واقتصادية وسياسية، وكلها تقلق دول وشعوب المجلس منذ قيامه قبل ثلاثة عقود وحتى الآن. ويبقى الهاجس والمعضلة الأمنية، وفقدان قدرة أمنية تحصن دول المجلس، بتشكيل قوة رادعة توازن القوى الإقليمية في المنطقة دون الاعتماد الأساسي على حماية مستوردة من الخارج.
لا أعتقد أننا في المجلس سنرى عملة خليجية موحدة بحلول عام 2010 في تاريخها المقرر، خاصة بعد انسحاب عُمان وفك الكويت ارتباط الدينار الكويتي بالدولار. وهذا هو ما يراه حوالي نصف العاملين في القطاعات المالية والاقتصادية في المنطقة. مع استمرار النزيف وانهيار سعر الدولار الذي يقضم من مداخيله ويزيد التضخم، حيث فقد الدولار حوالي 40% من قيمته منذ عام 2004. ولذا فإن قمة مسقط تُعقد في ظل ركود اقتصادي يقترب من مرحلة الكساد العالمي، وفي أجواء انهيار غير مسبوق في حدته حيث تراجع سعر برميل النفط منذ 11 يوليو الماضي بـ73%، على رغم قرار "أوبك" خفض إنتاج النفط مرتين بواقع سيصل إلى 4 ملايين برميل يومياً. ولاشك أن هذا التراجع الاقتصادي سيدفع حكومات الخليج لإعادة تسعير متوسط سعر برميل النفط في موازناتها للعام القادم، وستعيد النظر في المشاريع التريليونية للقطاعين العام والخاص. ومن المتوقع أن تحقق دول المجلس بملايينها الستة والعشرين مجمل ناتج كلي يتجاوز التريليون دولار لأول مرة في تاريخ المجلس، مما يجعلها القلب والنبض والقاطرة الكبيرة التي تقود العالم العربي. يُضاف إلى ذلك ارتفاع قيمة صناديق السيادة لدول المجلس إلى تريليونيْ دولار، دون أن تتوفر معلومات دقيقة عن حجم الخسائر الكبيرة التي لحقت بتلك الصناديق السيادية المستثمرة بشكل كبير في الغرب والمؤسسات المالية التي تراجعت قيمة أصولها وأسهمها بشكل حاد بسبب تفاقم الأزمة الاقتصادية المتصاعدة.
سياسياً تُعقد القمة عشية استلام أوباما الرئاسة الأميركية، وهو المطالِب بتقليص الاعتماد على النفط المستورد، وقد تعهد بالانخراط في برنامج طموح قد لا يتحقق كما حاول أسلافه بأن تعمل 85% من المركبات والسيارات الأميركية التي تستهلك 30% من استهلاك الطاقة هناك على مصادر طاقة غير البنزين والديزل.
ما ينبغي أن تناقشه القمة هو كل تلك التداعيات المرتبطة بالأمنين الصلب والناعم، واتخاذ خطوات اقتصادية ومواقف سياسية ومبادرات جريئة تجاه التهديدات، تبدأ برؤية وليس رؤى للأمن الخليجي، من المسألة العراقية والمشروع الإيراني المتصاعد بما فيه البرنامج النووي. بالإضافة إلى صياغة موقف خليجي واضح من مطالبات إدارة أوباما حول انضمام العراق واحتضانه، والضغط على إيران، وما هو دورنا الموحد في ذلك. وكذلك موقف أكثر تقدماً حول المبادرة العربية مع إيصال رسالة للإدارة الأميركية الجديدة بمحورية القضايا الثلاث التي تبقى مقاربة إدارته حاسمة تجاهها، وتنعكس سلباً أو إيجاباً على أمننا واستقرارنا وازدهارنا في المستقبل. وبطبيعة الحال تستمر الاستحقاقات الأخرى التي تأخر حسمها والبت فيها طويلاً في مسألتي التهديدات الصلبة وكذلك الناعمة. فهناك استمرار الخلل بالاعتماد على مصدر ناضب للدخل. وهناك العجز في الشق العسكري الذي تفاقم مع تفكيك درع الجزيرة، والعجز عن فرض توازن ممكن للقوى مع القوتين الكبريين في إقليم الخليج، مما يبقينا نراوح في اعتماد لا ينحفض أو يتراجع على أمن القوى الكبرى. ويعزز ذلك الخلل افتقار دولنا إلى العمق الاستراتيجي والبشري والعسكري، والاعتماد على الأمن المستورد بكل ما يتطلبه من أثمان، ومخاطر.
وهناك التحديات الإقليمية من باكستان التي تقترب من شفير الحرب مع الهند، البلدين النوويين، إلى استمرار الجمر اللبناني تحت الرماد على رغم نجاح الوساطة القطرية. ومن غزة المحاصرة التي تواجه الاجتياح ونسف عملية السلام إلى تضييق الخناق على السودان والمطالبة برأس رئيسه، وصولًا الى الصومال الكيان المنهار، الذي أصبح أكثر الدول فشلاً، والمحتل من إثيوبيا، زيادة على تفاقم الخطر الأمني لقراصنته.
لقد استمر مجلس التعاون لدول الخليج العربية على رغم كل التحديات والمصاعب. وتحول إلى أنجح تجمع إقليمي عربي، وصمد أمام الخلافات السياسية البينية وتغلب على دوامة الحروب في إقليم دائم التوتر. ولكن لم نقترب من ذلك التكامل المأمول. ولذا فإن المجلس بحاجة إلى المزيد من الجرأة والصراحة والشفافية والتنسيق وتوحيد الجهود، والحديث بلسان وقلب واحد ليقوى في مواجهة التحديات المستقبلية.