مر أكثر من أسبوعين على موقعة "أم الأحذية" التي دارت أحداثها في العاصمة العراقية فور أن أطلق الصحفي العراقي منتظر الزيدي "الحذاء القذيفة" بفردتيه، على قصفتين في اتجاه الرئيس بوش الصغير وهو برفقة رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، ولم تسفر الموقعة عن أي خسائر في الأرواح أو الممتلكات. ويخضع مطلق القذيفة حالياً للمحاكمة، وعلى الرغم من مرور مدة طويلة على الواقعة فلم تصمت تداعياتها أو تخب انعكاساتها حتى الآن. كانت موقعة أم الأحذية شبيه بكرة الثلج، بدأت صغيرة وفي أثناء تدحرجها أضحت جبلاً هائلاً يحمل مواقف وآراء ما بين مؤيد ومعارض، وإن كان عدد المؤيدين قد فاق المعارضين والمنددين والشاجبين للموقعة، وغطت "الأحذية" كافة وسائل الإعلام، خاصة المرئية والمقروءة والإلكترونية، ما بين صور وتعليقات وكاريكاتير وأغان وأشعار، بل ظهرت ألعاب إلكترونية تطرح استخداماً جديداً للأحذية، ولم يخل الأمر من تكرار الموقعة بصورة حاشدة في بعض المدن العربية والأجنبية، بل إن هناك من عرض شراء الحذاء القذيفة، كما أن هناك برلماناً عربياً وقف دقيقة احتراماً لقائد الموقعة، وبلغ عدد المواقع الإلكترونية التي تعرضت للموقعة حتى الآن أكثر من 70 ألف موقع على شبكة الإنترنت، وسجل أحد كليبات الفيديو لما جرى نحو 800 ألف مشاهدة على موقع "يوتيوب"، في حين أنشئت خلال 48 ساعة من الموقعة 250 صفحة ومجموعة دعم لصاحبها على موقع "فيس بوك" الشهير للتعارف الإلكتروني. وإذا كان ما جرى عملاً فردياً ربما يعبر عن موقف شخصي، فإن التوقيت والمناسبة والشخصية المستهدفة أدت إلى انتفاضة حقيقية شاركت فيها جهات عديدة رسمية وغير رسمية، فردية وجماعية، عالمية ومحلية، وأصبحت تكرّس لأسلوب جديد في التعبير عن الغضب وثقافة جديدة في الخطاب الإعلامي، لذلك ربما يظل "الحذاء القذيفة" حديث معظم المجتمعات ووسائل الإعلام حول العالم لفترة طويلة مقبلة. والمسألة برمتها يمكن حصرها في ثلاثة جوانب، الأول منها هو الجانب الأخلاقي والقيمي لتوصيف الواقعة، والثاني رمزي تعبيري يمكن استقراؤه على ضوء مجمل الأحداث الجارية في المنطقة، والجانب الثالث مرتبط بمدى فهم وإدراك البعض لثقافة الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان ومسؤولياتها. فمن ناحية الجانب الأخلاقي نجد أن الواقعة إذا لم تحدث من شخص مدعو بصفته المهنية لحضور مؤتمر صحفي يمثل فيه الجهة التي يعمل بها وحدثت من مواطن عراقي عادي وفي مكان آخر، فربما يكون لها تبريرها ومصداقيتها وتوصيفها كتعبير فردي أو حتى جماعي تجاه شخص بغيض وسلوكه مكروه، وهنا نتذكر واقعة حدثت للرئيس الفرنسي ساركوزي، عندما رفض مواطن فرنسي مصافحته واتهمه بأنه قذر، وكان ذلك في لقاء جماهيري فور تولي الرئيس الفرنسي السلطة، ولم يعلق أحد على الواقعة، وكان رد ساركوزي عليه كمواطن وليس كرئيس دولة. لكن عندما يختلط الأمر ويعبر شخص عن وجهة نظره وهو يحمل هويته المهنية ويمثل جهة معينة مهمتها البحث عن الحقيقة لعرضها على المشاهدين، يصبح الأمر عبثياً، ويندرج تحت طائلة الفعل الصبياني، لذلك فإن بعض الإعلاميين والصحفيين، من العرب والأجانب قد استغل هذه الحادثة وأضافها بطريقة أو بأخرى، إلى مجمل الصورة الذهنية المنتشرة عن العرب بدءاً من التطرف والعنف، مروراً بالإرهاب وقتل الأبرياء، وصولاً إلى الإهانة وعدم تقدير المسؤولية. أما الجانب الرمزي في موقعة "أم الحذاء" فإنه يمثل امتداداً طبيعياً للشعارات الجوفاء والخطب الرنانة التي كثيراً ما يتشدق بها أصحاب أمجاد الشجب والإدانة والرفض، مع اختلاف وحيد هو أن صاحب الموقعة سيدفع ثمن ما جناه حذاؤه، وإذا كان التعاطف والتأييد لفعلته حاشداً من جانب كل من يعادي بوش الصغير وسياسات إدارته، فإننا نود أن نذكر الجميع بضرورة ألا يصبح ذلك ثقافة في التعبير عما تجيش به الصدور، لأن الأهم هو الفعل والعمل، فموقعة الحذاء لن تصلح شيئاً أفسده العرب بأنفسهم في أنفسهم... فمن الذي دفع العراقيين اليوم للتنصل من مواطنتهم والتقاتل على السلطة والسعي إلى تقسيم الوطن واقتسامه؟ ومن الذي دفع بالفلسطينيين إلى طريق الانقسام والبحث عن مصالح خاصة سلطوية؟ وما العبثية التي تحدث داخل الدولة اللبنانية وتسمح بالتدخل الخارجي وتجعل اللبنانيين يتفقون على ألا يتفقوا؟ يجب أن نتيقن تماماً أن عصر الشعارات الحنجوري وطق الحنك قد ولى، وآن الأوان لنقضي على ما أشيع عن العرب من أنهم "ظاهرة صوتية"، فالمقياس الوحيد للإنجازات هو العمل وإرادة الفعل ومصداقية التنفيذ، وهي في الواقع أهم من أي عمل رمزي، وإذا كان الرئيس بوش الصغير قد أخذ الموضوع بصدر رحب وحوله إلى فكاهة فذلك لأنه يعلم يقيناً أن الديكتاتورية المتأصلة في العراق ستجعل من صاحب الموقعة عبرة لمن لا يعتبر وستكيل له الصاع أضعافاً مضاعفة، وبعد فترة ستنتهي موجة التهليل والتأييد لتصبح مناشدة ورجاء لتخفيف الحكم عن صاحب القذيفة أو الإفراج عنه، وينقلب السحر على الساحر. لقد سبق أن استخدم العرب القباقيب في قتل شجرة الدر التي كانت تحكم مصر بالحديد والنار، لذلك لم ينس التاريخ معركة "أم القباقيب"، لأن نتيجتها كانت حاسمة في تغيير الحكم في مصر، أي أن نتيجة الفعل هي التي أدخلته التاريخ. من المفهوم تماماً أسباب ومبررات فرحة الكثيرين، سواء من العرب أو الأجانب، بما حدث لبوش الصغير من إهانة، وهو الرئيس المنتهية ولايته، ويمكن اعتبارها تنفيساً معنوياً عن مدى معاناة شعوب كثيرة من العالم بالأفعال الكارثية والسلوك غير المسؤول من بوش الصغير وإدارته طوال السنوات الثماني العجاف، بعد أن نجحوا في تقويض الدستور الأميركي، وإخضاع الكونجرس وسلب إرادة الشعب الأميركي لصالح توجهات ومصالح المحافظين الجدد والدولة العبرية، ولكن من غير المفهوم استمرار حالة من الانتشاء والسعادة والتغني بما حدث كأننا هزمنا الإمبراطورية الأميركية وطموحاتها العالمية في موقعة "أم الحذاء". يبقى الجانب الثالث للحدث، ونعني به الجانب السياسي المتمثل في صورة التعبير عن الحرية والديمقراطية، فإذا كان البعض قد اعتبر "الحذاء القذيفة" رمزاً للحرية فإن ذلك شهادة واقعية على نجاح سياسة بوش الصغير في العراق، بعد أن كانت إشاحة النظر عن صورة الزعيم الأوحد جريمة يعاقب مرتكبها بالإعدام، وإذا كان البعض الآخر قد اعتبر الأمر يندرج تحت مظلة الديمقراطية فإن ما ترتب على الحدث من سرعة الانقضاض والضرب والإهانة وتكسير العظام وتحويل صاحب الحذاء إلى المحاكمة العاجلة وحرمانه من أبسط حقوقه في قبول الدفاع عنه، خير دليل على الهلوسة الديمقراطية وانتشار ثقافتها في المجتمع العراقي. هل عدنا إلى الهمجية وتخلينا طواعية عن منطق الحجة والنقاش والإقناع بالأدلة، وألغينا العقل وحملنا الحذاء لندافع به عن كرامتنا المهدورة وهزائمنا المتكررة ومصالحنا المستباحة؟ رغم رمزية الحدث فإنه قد جرى استثماره إعلامياً وسياسياً، وتم افراغه من مضمونه ومنحه سمات وصفات تفوق تأثيره الحقيقي، بينما على أرض الواقع لم يتحقق أي شيء، إنه أمر يتشابه مع إلقاء سحرة فرعون لعصيهم وسحرهم أعين الناس، فما رآه الناس باطل، لأن ما يمكث في الأرض هو العمل، لذا فإن موقعة "أم الحذاء" ربما تكون تعبيراً رائعاً عن مدى العجز العربي في مواجهة المسؤوليات التاريخية، لذلك لن تسفر الحادثة عن نتائج حاسمة لسبب بسيط، هو أن الله "لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"... فاعتبروا يا أولي الأبصار.