درس الحذاء الطائر
الحذاء في الثقافة الشعبية العربية رمز الإهانة. يُداس بالأقدام على الأرض، ويضرب به الخصم. فالمضروب توجه إليه رسالة من خلال مستوى آلة الضرب. وقد يكون السيف كرامة، والرصاص شرفاً، والشنق عقاباً. ليس الهدف بالضرب بالحذاء الموت بل الاحتقار والإذلال والتشفي. ومثله "القبقاب" في المثل الشهير بشجرة الدر وضرتها في الحمام، والحذاء بأيدي الرجال مثل "الشبشب" بأيدي النساء. فالحذاء أثقل، والشبشب أخف. وتكون المذلة أكثر في الحذاء الأسود وليس البني أو الأبيض. فالأسود لون الحزن والقتامة والكراهية والعذاب: اليوم الأسود، والنهار الأسود، والليلة السوداء. وهو لون الطين والزفت والقطران.
وما حدث مؤخراً من قذف صحفي عراقي رئيس الولايات المتحدة الأميركية أثناء زيارته للعراق، وهو واقف في مؤتمر صحفي بجوار رئيس الوزراء ودفاعه عنه بيده حماية له من الفردة الثانية للحذاء، وتحاشي الرئيس بميله وطأطأة رأسه لتفادي الفردة الأولى، له دلالته البالغة على مدى رفض الشعب العربي في العراق الوجود الأجنبي منذ الغزو الأميركي قبل ما يقرب من خمس سنوات واستمراره، ورفض المعاهدة الأمنية وبنودها. فقد غزا الرئيس المهان، والمحتج عليه، العراق بناء على كذبة امتلاكه أسلحة الدمار الشامل، ودون تفويض رسمي من الأمم المتحدة. وأُعدم رئيسه المخلوع صبيحة عيد الأضحى. واغتال العنف والحرب العديد من أبنائه بلا محاكمة أو ذنب. ودمر بنيته التحتية التي لا يمكن إعادتها قبل خمسين عاماً. وقتل حوالي مليون عراقي مدني، وهجّر حوالي ثلاثة ملايين. واستولى على عوائد النفط. وقسم العراق إلى ثلاث مناطق: شيعية في الجنوب، وسُنية في الوسط، وكردية في الشمال. ويذهب بعض المراقبين إلى أن عدم الاستقرار جعل، خلال سنوات ماضية، بعض مناطق بلاد الرافدين مرتعاً لإسرائيل تعيث فيه كما تشاء بحثاً عن أملاك اليهود العراقيين الذين هجرتهم إسرائيل عام 1948، وجمعاً للمعلومات الاستخبارية عن قدرات البلاد العسكرية.
وغيّب الرئيس الأميركي الوعي السياسي العراقي وانحرف به من الاحتلال الأميركي إلى الخطر الإقليمي، ومن المقاومة العراقية ضد الغزو الأميركي إلى التدخل الخارجي. وسمح لـ"حزب العمال الكردستاني" بالعدوان على الحدود التركية ثمناً لتأييد الأكراد للاحتلال الأميركي للعراق. ودفع المشهد الإقليمي إلى الاعتراف بالحالة العراقية تحت الاحتلال. وتساقط القتلى الأميركيون أيضاً بالعشرات ثم بالمئات حتى أصبحوا بالألوف. وما زالت طوابير أحذيتهم تعرض أمام البيت الأبيض في مظاهرات الاحتجاج التي ينظمها مناهضو الحرب ودعاة السلام في أميركا. فالحذاء نوعان، الطائر في وجه الرئيس في بغداد، والساكن على الأرض في واشنطن، وكلاهما يذكّر بصاحبه الدفين.
والقذف بالحذاء في وجه أحد أقسى على النفس من إطلاق الرصاص غيلة على كيندي ولنكولن. بعده يصبح الرئيس "شهيداً"، الأول "شهيد" شعار: "ليس المهم ماذا تأخذ من أميركا، بل ماذا تعطيها". والثاني "شهيد": "يجب الحفاظ على الوحدة"، وحدة الشمال والجنوب أثناء الحرب الأهلية لتحرير العبيد في أميركا. ولو أصاب الحذاء الوجه لحدث فيه جرح دائم يذكر بالمهانة والذل في الحياة وفي الممات، أمام النفس وفي الإعلام الذي بدونه لا تستقيم الحياة الأميركية. ولكل طرف أسلحته الطائرة. لأميركا الطائرات والصواريخ والقذائف التي لم تستطع منع المقاومة وإبداعاتها. والمقاومة بالإضافة إلى أسلحتها على الأرض وصواريخها ضد الدبابات والمركبات ورصاصها ضد جنود الاحتلال لها أيضاً أحذيتها الطائرة في أيدي المواطنين مثل حجارة أشبال فلسطين في مواجهة جنود الاحتلال الإسرائيلي ومركباتهم.
وإذا كانت الحروب أنواعاً، عسكرية واقتصادية واجتماعية وثقافية فإنها أيضاً حروب نفسية، طفل في مواجهة دبابة، وعين ثاقبة لمقاوم في مواجهة قناص بيده مدفع، وحذاء طائر في مواجهة رئيس أكبر دولة وحوله رجال الأمن، وخضوع جميع الحاضرين للتفتيش بأعقد أجهزة الكشف عن الأسلحة الصلبة والسائلة. هو رفض رمزي للاحتلال الأميركي. ليس فقط من العراق بل من كل الشعب العربي الذي أيقظته الحادثة إن لم يوقظه الحصار الإسرائيلي لغزة وتجويع مليون ونصف مليون مواطن فلسطيني عربي مسلم. وليس فقط العرب بل كل المسلمين المضطهدين المحتلين المعتدى عليهم في أفغانستان وبورما وتايلاند وسبتة ومليلية بالمغرب. وليس فقط المسلمين بل كل شعوب العالم المضطهدة العاشقة للحرية والتحرر والسلام في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية.
أصبح رفع الحذاء رمزاً لرفض المعاهدة الأمنية الغامضة في بعض بنودها والخاضعة للتأويل الذي يسمح ببقاء وجود قوات الاحتلال حتى بعد المدة المقررة في أشكال أخرى، في المدن ودون القرى، وفي المعسكرات دون الشوارع، ومن أجل تدريب القوات العراقية وليس للدخول في عمليات عسكرية مباشرة، وخضوع أفراد القوات الأميركية للقضاء العراقي وليس للقضاء الأميركي. وهو درس للرئيس الأميركي المنتخب، أن الانسحاب من العراق أصبح ضرورة إذا ما أراد الحفاظ على الكرامة الأميركية وإنهاء غرور الغطرسة والقوة والاختيار الإلهي دون العدل والحرية والمساواة وهي المبادئ التي قامت عليها الولايات المتحدة منذ ثورتها على الاحتلال البريطاني، ودونتها في وثيقة الاستقلال وفي بنود الدستور ودافع عنها الآباء المؤسسون قبل أن تتحول أميركا إلى قوة استعمارية جديدة ترث الإمبراطوريات الاستعمارية الأوروبية القديمة.
يمكن أن تكون المقاومة بأبسط الأشياء وأيسرها وربما أضعفها قوة ولكن أكثرها رمزاً. ويمكن أن يكون الاحتلال بأعقد آلات الحرب وأشدها فتكاً ولكن أضعفها تأثيراً على الروح المعنوية وعلى حقوق الشعوب في الحرية والاستقلال. لذلك يضرب الحجاج إبليس بالحصى. ومهما أحيط الرئيس بأجهزة الأمن الإلكترونية والبشرية إلا أنها تنهار أمام إرادة الشعوب.
لقد أصبح الحذاء رمزاً يرفع في المظاهرات، يدل على ضعف العدو مهما بلغت قوته، وعلى قوة المقاومة مهما كانت وسائلها. فالحياة رموز. والصراعات معان. والقوة ليست فقط مادية بل أيضاً معنوية. وقد ارتفع ثمن الحذاء الرمز من بضعة دولارات إلى عشرة ملايين دولار. أصبح الحذاء في الخيال يخيف بعض السلطات.
ليس العرب عاجزين كما يبدو عليهم في الخارج وكما يوحي به سير الأحداث أو سكونها. بل هم قادرون إن أرادوا. ولا حدود لإبداعهم في المقاومة. فالمقاومة هي الأصل. والاستسلام هو الاستثناء. وحصار غزة هو الاستثناء العارض، وكسر الحصار ومقاومة الاحتلال هو الأصل. يحتاج الأمر إلى زمن للاختمار في ثقافة الصبر ففيها فضيلة، وتحمل العذاب عادة، وانتظار الفرج سلوك شائع "اشتدي أزمة تنفرجي". طيران الحذاء في الهواء في وجه رئيس أقوى دولة في العالم إنما هو دخان يتصاعد من بركان قبل الانفجار والقذف بالحمم من أعلى ومن أسفل، على القمم والسفوح، على قوى الاحتلال.
هو درس لاستحقاق العقاب الذي لا يفلت منه أحد، صغيراً كان أم كبيراً، إقليمياً كان أم دولياً، داخلياً كان أم خارجياً، عربياً كان أم أميركياً. فوعي الأفراد والشعب لا يموت. ويقظة الوعي الفردي مقدمة لتحرك الوعي الجماعي. درس الحذاء هو استحالة استرقاق الشعوب من الخارج أو التسلط على رقابها من الداخل.