خطر الشائعات
في سابقة لافتة، تناقلت وكالات الأنباء العالمية مؤخراً خبر نفي شرطة أبوظبي صحة شائعات تداولتها رسائل نصية تمّ تناقلها عبر الإنترنت، تزعم وفاة عدد من الأشخاص جراء استنشاق عطر قاتل يبيعه باعة متجولون، ويؤدي إلى الوفاة خلال أربعة أيام!
بطبيعة الحال تحسب لشرطة أبوظبي مهنيتها العالية، وسرعة الاستجابة، والمبادرة إلى نفي الشائعة بعد تداولها بفترة زمنية وجيزة، والانتقال من دائرة نفي الشائعة إلى التحذير من تداولها، وكان هذا تحركاً مطلوباً للتصدي الفاعل لشائعات مدمرة كهذه.
هذه الشائعة تحديداً كانت "خبيثة" ومغرضة إلى درجة كبيرة، وحرص مطلقوها على تضمينها عناصر كاذبة يدركون مسبقاً أنها مهمّة لضمان سرعة انتشارها وتأثيرها بالشكل الكافي، حسبما تشير الدراسات السيكولوجية، لذلك ضمنوا الشائعة أرقاماًَ لضحايا مزعومين اختارها مطلقوها بعناية لمحاولة تأكيد زعمهم بصحة الشائعة، وتمت صياغة هذه الشائعة بشكل إخباري يوحي للبسطاء بصدقيتها، ويلعب على وتر الخوف الكامن في داخل البشر، سواء كان الخوف من المرض، أو الموت، أو المجهول.
هذه الشائعة لم تكن الأولى من نوعها، بل سبقتها في فترات سابقة بعض الشائعات محدودة الانتشار والتأثير عن تأثيرات ضارة لبعض الأغذية، أو شائعة تهريب كميات كبيرة من شمام محقون بفيروس الإيدز، وغير ذلك، لكن سرعة الرد هذه المرة كانت حاسمة، وتتوازى مع مدى خطورة الشائعة.
الشائعات عادة ما تنتشر بهدف إثارة البلبلة والفوضى والذعر لتحقيق مصلحة ما، والسلطات المعنية في الدولة لم تستبعد أن يكون وراء نشر هذه الشائعة "منتفعون" يهدفون إلى زعزعة الثقة بمنشآت تجارية وصناعية رائجة لمصلحة منافسين آخرين، أي أن الشائعة ربما أطلقت ضمن حرب تجارية غير مشروعة! لكن اللافت أن الشائعة عادة ما ترتكز على جزء ولو بسيط من الحقيقة، أو تستغل أجواء معيّنة لتعزيز صدقيتها، مثلما حدث إبّان شائعات إنفلونزا الطيور، أو الشائعات المتداولة في أسواق المال، ولكن الشائعة الأخيرة خلت تماماً من الحقيقة، واعتمدت كلياً على عنصر حبكة الصياغة، وتضمين جانب معلوماتي لإرباك مستقبليها، والإيحاء بدقتها، فضلاً عن استغلال عامل الخوف الفطري الكامن داخل البشر، الذي يلعب الدور الأبرز في انتشار الشائعة كالنار في الهشيم، كونها تتميز على الأخبار التقليدية بالمفاجأة والغرابة، والتماس المباشر مع متلقيها ومصالحهم، مثلما يحدث في شائعات أسواق الأسهم، أو ترتبط بصحة هؤلاء المتلقين مثلما حدث في الشائعة الأخيرة.
انتشار تقنية الرسائل النصيّة يلعب الدور الأبرز في انتشار الشائعات في الوقت الراهن، اعتماداً على أن الجمهور يتداول طوال اليوم مئات الآلاف من الرسائل، سواء كانت هذه الرسائل عبارة عن "نكات"، أو أخبار، أو معلومات مجهولة المصدر. وهذا كله لا ينفي أن تكون بعض الشائعات من ترويج فئة من العابثين الذين يريدون لفت الانتباه فقط، أو يتلذذون بإثارة المتاعب والمخاوف للآخرين، والبيئة المناسبة لانتشارها لم تعد ترتبط بأجواء التعتيم والضبابية الإعلامية، بل بات من الممكن نشرها في ظل مناخ العولمة وأجواء الحرية، اعتماداً على أن سرعة محاصرتها تظل محدودة قياساً بحجم انتشارها الهائل بين الجمهور، ورهاناً على أن وأد الشائعة لدى الجميع يكاد يكون مهمة مرهقة للأجهزة المعنيّة، وأن هناك موروثاً ثقافياً يصعّب مهمة الرسميين في محاصرة آثار الشائعات واجتثاثها.
يظل الأسلوب الأمثل لمواجهة الشائعات والتصدي لها، هو سرعة الاشتباك معها، ودحضها في وقت قياسي من جانب الأجهزة المعنية، ويظل كذلك تكريس الشفافية الإعلامية كي تتجذّر لدى أفراد المجتمع جميعاً قناعات راسخة لا تزعزعها الشائعات والأقاويل، وغير ذلك من أخبار تنسب إلى مصادر "قالوا ويقولون"! ويبقى الرهان الأهم على وعي الجمهور وثقافته العامة، وإدراك الآثار السلبية الناجمة عن تناقل الشائعات، والخطر المجتمعي الكامن وراء تداولها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن نشرة "أخبار الساعة" الصادرة عن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية.