شكلت وفاة الشاب "أندرياس جريجوروبولوس" برصاص شرطي في أثينا في السادس من ديسمبر الشرارة التي فجرت برميل البارود في اليونان. غير أن الوقائع تشير إلى أن الشرارة إنما أُشعلت في برميل بارود كان منذ وقت طويل على حافة الانفجار. وبالتالي، فسيكون من غير الإنصاف أو بالأحرى سيكون إغراقاً في التبسيط تعليق الاضطرابات التي عرفتها البلاد منذ هذا الحادث المأساوي على مشجب جماعات الفوضويين فقط. وعليه، فكيف يمكن تفسير كون هذه الاضطرابات من القوة والانتشار بحيث شلت الحركة في البلاد؟ الواقع أن الاستياء كبير وعميق ويعم كل البلاد. بدايةً، لا بد من الإشارة إلى أن الاستياء يعم صفوف الطلبة منذ أن عمدت حكومة "كوستاس كارامانليس" قبل نحو عامين إلى فرض إصلاح بالقوة لا يحظى بتأييد الجمهور ويقضي بخصخصة الجامعات ومؤسسات التعليم العالي بشكل جزئي، وهو الإصلاح الذي أثار سخط الطلبة وجعلهم يناصبون الحكومة العداء نظراً لأنها ترفض الإصغاء والاستجابة لمطالبهم. وعلاوة على ذلك، فإن الطلبة لا يجدون بعد إتمام دراساتهم وتخرجهم وظائف في مستوى تطلعاتهم وطموحاتهم إلى درجة أنهم باتوا يُعرفون بـ"جيل الـ600 يورو"، وهو متوسط الراتب الذي يتقاضاه عدد كبير من الشباب خريجي المعاهد والجامعات اليونانية، والذي لا يرقى إلى ما يتطلعون إليه بعد إنهاء دراساتهم الجامعية ولا يكفيهم من أجل عيش حياة مستقلة خارج البيت العائلي. ونتيجة لذلك، فإن الاستياء الحالي يسود جامعات النخبة مثلما يسود الجامعات العادية، ويسود الأحياء الراقية مثلما يسود الأحياء الشعبية. باختصار، إنه شعور ينتاب جيلًا بكامله. وإذا كان الطلبة يحظون بدعم وتأييد النقابات والأحزاب "اليسارية"، فإن كل فئة الشباب قلقة بشأن مستقبلها والآباء يدعمون أبناءهم ويتضامنون معهم. ثم هناك التعبير عن الغضب والتمرد إزاء وضع اقتصادي واجتماعي متدهور أصلًا جاءت الأزمة المالية العالمية الحالية لتكرسه وتفاقمه، فقد ارتفعت ديون اليونان إلى مستويات قياسية (94 في المئة من الناتج المحلي) في وقت تتبنى فيه الحكومة سياسة تقشف جد صارمة. ولئن كانت اليونان تعد في نظر العالم مهد الديمقراطية، فإن واقع النظام السياسي الحالي أبعد ما يكون عن المثالي. وضمن هذا السياق، صحيح أن الناخبين في ذلك البلد المتوسطي يصوتون بشكل حر، غير أن النظام مصاب بحالة جمود ويلقى رفض عدد كبير من اليونانيين. ففي سبتمبر 2007 تمت إعادة انتخاب حكومة "كارامانليس" بعد فوزها بهامش محدود جداً، إذ لم تحصل سوى على صوت أغلبية واحد في البرلمان، غير أنها لم تنكب على محاربة الفساد المزمن المتفشي في البلاد، والذي كانت قد تعهدت بالقضاء عليه أثناء الحملة الانتخابية. فتواصل عقد الصفقات، وأحدثها بيع مبانٍ من القرية الأولمبية لدير "فاتوبيدي" (على جبل اثوس) مقابل شروط تفضيلية، وهو ما كلف دافعي الضرائب اليونانيين 100 مليون يورو على الأقل. وإلى ذلك، تحوم الشكوك هذه الأيام حول قيام شركة "زيمنس" بمنح هدايا ومزايا لسياسيين محليين، وبخاصة من الحزب الاشتراكي اليوناني، من أجل الحصول على عقود الهاتف. ومن جهة أخرى، تُظهر الحرائق التي عرفتها البلاد في صيف 2007، وأثرت سلباً على الموسم السياحي، فشل وقصور أجهزة الدولة التي عجزت عن مكافحة الحرائق بشكل فعال. كما سمحت المضاربات العقارية، التي تعد من الموارد المالية الرئيسية للفساد، بحيازة أراض محروقة في 2007 ، مما أثار سلسلة من التساؤلات حول الأسباب الحقيقية لتلك الحرائق، ومن ذلك: أيمكن أن تكون تلك الحرائق قد أُشعلت عمداً من أجل إنشاء مبان على مناطق لم يكن مسموحاً بتشييد مبان عليها قبل الحرائق؟ وعلاوة على ذلك، فإن رئيس الحكومة "كوستاس كارامانليس" هو أحد أقارب الشخص الذي كان رئيساً للوزراء في اليونان لمدة أربع مرات ما بين 1955 إلى 1980، ثم رئيسًا للبلاد من 1980 إلى 1995. غير أن خصمه من الحزب الاشتراكيز "يوريوس باباندريو" هو، بالمقابل، "ابن أندرياس باباندريو"، الذي كان رئيساً للوزراء من 1981 إلى 1989، ثم من 1993 إلى 1996، والذي كان والده أيضاً رئيساً للوزراء من قبل. وبالتالي، فالأمر يتعلق هنا بنظام أقرب ما يكون إلى نظام ملكي يرفض الإقرار بذلك. إذ مهما تكن الأصوات، إلا أن نفس الأشخاص يستأثرون بالسلطة. رفضُ نظام سياسي جامد ومتحجر، والقلقُ بشأن المستقبل الاقتصادي... ذاك هو واقع حال الشعب اليوناني، الذي يعاني بكامله اليوم. وبغض النظر عن الخصوصيات التي تميز اليونان عن غيره، فإن بلداناً أوروبية أخرى تبدو قلقة من ردات الفعل الممكنة لشبابها الذي بات يفتقر أيضاً إلى آفاق رحبة ومستقبل واعد. وبالتالي، فالسؤال الذي يفرض نفسه في هذه الحالة، هو ما إن كانت احتجاجات الشباب اليوناني ستظل مقتصرة على اليونان أم ستمتد عدواها إلى بلدان أوروبية أخرى، خصوصاً، وأن الصعود الاجتماعي يبدو معطلاً عموماً في القارة. فإذا كان الآباء في أوروبا خلال "السنوات الثلاثين المجيدة" (والمقصود بها الثلاثين سنة من النمو الاقتصادي المتواصل الذي عرفته القارة العجوز من 1945 إلى 1975) مقتنعين بأنه ستكون لأطفالهم حياة أفضل من حياتهم (وذاك كان هو محرك العقد الاجتماعي)، فإن الجميع اليوم بات يخشى أن يكون الغد أقتم وأحلك من الأمس، وهو ما يفسر قلق الشباب وغضبهم أحياناً.