تنوير
بأفول هذا العام يكون العالم الغربي الأوروبي قد احتفل بمرور مائتي عام على شروق عصر الأنوار المعروف بالـ"التنوير "، وهو عصر آذن بأفول هيمنة الكنيسة التي استمرت قرابة عشرة قرون جعلت من القارة الأوروبية مرتعاً للجهل والتخلف العلمي وبيع صكوك الغفران، وإعلان الهيمنة المطلقة للعقل البشري. وها هي أوروبا قد وصلت إلى القمة في كل مجالات الحياة العلمية والثقافية والسياسية والاجتماعية. وأصبحت الحضارة الغربية معياراً للتقدم الإنساني. ولكن كيف هو الحال بالنسبة للعالم العربي اليوم؟ لا يختلف اثنان على حقيقة أن الشعوب العربية لم تستفد شيئاً من هذا العصر العظيم بما يأخذ بيدها نحو الرقي والتقدم الحضاري. لقد أخفقت الدولة العربية في تحقيق التقدم العلمي المطلوب وفقاً للمفاهيم والصيغ الأوروبية، بل إن هذه الدولة عجزت حتى عن التوقف في المكانة التي كانت عليها بعد الاستقلال. لقد تخلف كل شيء في العالم العربي، الديمقراطية والتعليم والاقتصاد والثقافة، وأصبحت الدولة العربية مرتعاً خصباً للتخلف الحضاري وارتفاع نسبة الأمية وتدهور التعليم والفنون. وإذا كان للهيمنة الدينية المتزمتة دور بارز وفعال في هذا التخلف الحضاري بما فرضته من رفض للفكر الغربي والحضارة الغربية، فإن الأمر يجب ألا يتوقف عند هذا الحدّ، بل يجب على المثقفين في المقام الأول محاسبة أنفسهم، ثم محاسبة الأنظمة العربية على عدم الأخذ بيد المجتمع للوصول إلى مرحلة التنوير، بدلاً من الوقوف عند وضعية التنوّر السائدة حالية. فالازدواجية في حياتنا العربية قد أصبحت نموذجاً سيئاً للتعامل مع القضايا المهمة. فالدولة العربية مدنية وليست علمانية، والدساتير لا تتوقف عند هوية محددة بل تخلط بين الدين والدنيا بصورة فجة، بحيث ما عاد الإنسان يعرف ماهية هوية الدولة التي يعيش فيها، ما إذا كانت دينية أم علمانية. فالوقوف عند تخوم الدولة المدنية والمجتمع شبه المدني قد ألحق أذى شديداً بالعقلية العربية. ولذلك كان من الطبيعي أن يتدهور النظام التعليمي لأن المناهج الدراسية لا تقوم على أسس حضارية، تُعلي من مقام العقل والتفكير الحر.
ومن متابعة وضع الدولة العربية يمكن القول بوضوح إن التنوّر الذي توقفت عنده الدولة العربية لم يفدها بشيء، بل أتاح للفكر الديني المتزمت التغلغل في تلافيف العقل العربي حتى ناله الفساد. وهذا أمر طبيعي. فالتوقف يعني الموت، وهو ما حصل للتنوّر العربي الذي شهد الرفض القاطع للتنوير، ومن ثم يغدو من الطبيعي أن تكون لدينا ديمقراطية ليست ديمقراطية، وبرلمان ليس برلماناً، ودستور ليس دستوراً، وتعليم ليس بتعليم، وثقافة ليبرالية لا تتسق مع المفاهيم الليبرالية التي أنتجها عصر الأنوار، أو التنوير. ومما يحزّ في النفس أن هذا الوضع غير قابل للاستمرار بل هو قابل للإنهاك الفكري، ومن ثم التلاشي تدريجياً. وهو ما يحدث فعلاً في الدولة والمجتمع العربي. ويزيد الأمر سوءاً أنه لا أمل إطلاقاً بالوصول إلى مرحلة التنوير الحقيقي كما هو الحال في أوروبا، بسبب هيمنة الفكر الديني المتزمت على جميع مناحي الحياة في المجتمع العربي. وللأسف أن المثقفين العرب لا يولون الأمر الاهتمام اللازم لعدم رغبتهم الخوض في المواجهة مع الجماعات الدينية، وخاصة أن القوانين العربية تدعم هذه الهيمنة المفجعة. فقانون المطبوعات والنشر في البلاد العربية يدل دلالة قاطعة على عدم رغبة الحكومات العربية في إصلاح المجتمع المدني بالتطور نحو الدولة الليبرالية القائمة على العقل. لقد أصبحت الحكومات العربية بدورها أسيرة الفكر الديني المتزمت، ولكن باختيارها.
وفي ظل هذا الوضع المأساوي لا يعود ثمة أمل في إصلاح المجتمعات العربية، خاصة مجال التعليم وحقوق الإنسان والديمقراطية. ولذلك سيظل العرب يرتعون في ظل التخلف الحضاري إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولًا.