في واشنطن يتابع معظم الأميركيين عملية الانتقال الرئاسي بقدر كبير من الاهتمام. غير أن تحولاً سياسياً آخر مهماً بدأ يتسارع بشدة خلال الأسابيع القليلة الماضية، وهو التحول من عالم ظلت تهيمن عليه الولايات المتحدة الأميركية منذ عام 1989، إلى عالم يتزايد فيه توزيع وتشابك النفوذ الدولي، مع بروز دور آسيوي واضح فيه. والمتوقع لهذا التحول في طبيعة العلاقات الدولية أن يؤثر على أجندة إدارة الرئيس المنتخب باراك أوباما منذ يومها الأول في البيت الأبيض. وهناك حدث رئيسي يشير إلى حقيقة هذا التحول. ففي الرابع من ديسمبر الجاري، توجه وزير الخزانة الأميركية هنري بولسون إلى العاصمة الصينية بكين، طالباً منها مد يد العون في إنقاذ الاقتصاد الأميركي من شبح الركود. والملاحظ هنا أنه وما أن يتعرض اقتصاد دولة ما من الدول للأزمات - في ظل العلاقات الدولية التي كانت تهيمن عليها أميركا- كان مسؤولو الدولة المعينة يتجهون إلى واشنطن ليطلبوا منها يد العون في إنقاذ اقتصادهم الوطني. واليوم ها هي واشنطن وقد فعلت العكس باتجاهها شرقاً نحو الصين. ومما يحسب إيجاباً للرئيس بوش، إدراكه لحقيقة حاجة بلادنا إلى مساعدة الآخرين في إخراجها من محنتها، ما دفعه إلى العمل الجاد من أجل الحصول على العون الاقتصادي الأجنبي. وعلينا أن نرحب بهذا التشابك الاقتصادي العالمي. فهو عالم يبلغ فيه الاحتياطي النقدي لكل من الصين واليابان الغنيتين، ما يربو على 570 مليار دولار في شكل مديونية للخزانة العامة الأميركية، في حين تملك الصين وحدها أسهماً ثمينة في شركتي "فاني ماي" و"فريدي ماك" العقاريتين العملاقتين الأميركيتين، تقدر قيمتها بحوالي 340 مليار دولار. وبالمقارنة كان الرؤساء الأميركيون طوال العقود الستة الماضية، قد دأبوا على استخدام الثقل الاقتصادي الأميركي أداة للضغط على قادة الدول الأخرى وإرغامهم على إجراء تغيير السياسات التي يتبعونها، متى ما رأت واشنطن أن في ذلك التغيير ما يخدم المصالح الحيوية الأميركية. بيد أن العلاقات الاقتصادية بين واشنطن وبكين تبدو أكثر تشابكاً وتعقيداً من علاقة الهيمنة الأميركية السابقة بكثير. ومع أن أحد المراقبين نعت هذه العلاقة الجديدة وأسماها "توازن الإرهاب المالي" إلا أن الحقيقة هي أن الأزمة المالية العالمية الأخيرة، كانت أشد إيلاماً وفتكاً بالاقتصادات الغربية، قياساً إلى الاقتصاد الصيني، ما يعني ترجيح الميزان الاقتصادي العالمي لصالح بكين على حساب الغرب، وفي مقدمته واشنطن. ولا بد من ملاحظة أن صعود الصين الاقتصادي العالمي، تحقق معظمه بالوسائل السلمية التنافسية العادية مع بقية دول العالم. فعلى امتداد نحو 34 عاماً واصلت بكين العمل الشاق من أجل اندماجها في النظامين الاقتصادي والسياسي الدوليين، بدلاً من السعي إلى مواجهة الدول وإسقاط نظمها السياسية بالقوة، خلافاً لما فعلت واشنطن في مرات عديدة متكررة. وبالنتيجة تعتبر الصين اليوم لاعباً دولياً أساسياً في عالم جديد طالما ازداد وتعقد تشابكه. وهذا ما يثير لدي آمالاً في أن يسفر هذا التشابك عن تشكيل العلاقات الدولية خلال العقود المقبلة. وفيما يلي بعض الأشكال التي يمكن أن يؤثر بها هذا التحول الكبير في العلاقات الدولية على إدارة أوباما. أولاً: انحسار الأحادية الأميركية. ففي المستقبل القريب المنظور، لن يكون في وسع أي رئيس أميركي ممارسة الأحادية التي طبعت إدارتي الرئيسين بيل كلينتون وجورج بوش وهيمنتهما على المسرح الدولي. وإذا أراد أوباما تأمين انسحاب غير كارثي من العراق، وحلاً للأزمة النووية الإيرانية، إلى جانب حل دائم للنزاع الفلسطيني- الإسرائيلي، فسيتحتم عليه التعاون مع بقية دول العالم، بدلاً من الحلول الأحادية المفروضة من واشنطن. ثانياً: ابتكار آليات جديدة لإعادة تنظيم الاقتصاد العالمي. هنا يعد الانتقال الإيجابي الذي أحدثه بوش من هيمنة الدول الثماني الكبرى إلى منتدى الـ20 دولة الكبرى، خطوة على طريق إعادة التنظيم هذه، نتيجة لاشتراك دول أخرى مثل الصين والهند والبرازيل وروسيا في المنتدى الاقتصادي الدولي. ومن الواجب استكمال هذا التحول إلى نهايته. ثالثاً: الأخذ بالاحتمالات البديلة لتحقيق الأمن والاستقرار في كل من باكستان وأفغانستان. فالملاحظ حتى الآن أن الجهود المبذولة في أفغانستان تسيطر عليها القوى الغربية، مع تعويل واضح على الوسائل العسكرية. والحقيقة أن هذه الوسائل لا تصلح لعلاج أزمة الحكم المزمنة هناك، ولا لمواجهة الاضطرابات التي تشهدها الجارة باكستان. ولا بد من تبني استراتيجية جديدة لحل هذه المشكلات، بحيث تشارك فيها كل من الصين وروسيا وغيرهما من الدول ذات العلاقات والتأثير التاريخيين على كلتا الدولتين. رابعاً: تبني نظرة جديدة إلى حقوق الإنسان؛ فأغلبية الشعوب بدأت تنظر اليوم إلى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية بذات نظرتها إلى الحقوق المدنية والسياسية. والملاحظ رغم ذلك أنه لم يسبق للولايات المتحدة الأميركية أن انضمت إلى المعاهدة الدولية الخاصة بالحقوق الاقتصادية الاجتماعية الثقافية. وطالما أننا نلح على بكين بضرورة تحسين مستوى احترامها للحقوق المدنية والسياسية لمواطنيها، فإن علينا أن نؤدي دورنا في تعزيز الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لمواطنينا. خامساً وأخيراً: أهمية الكف عن اعتمادنا على القوة العسكرية دون غيرها. والذي يستدعي هذه الضرورة أن التجارب الأخيرة في كل من العراق وأفغانستان والصومال ولبنان، أكدت عجز القوة العسكرية عن حل المشكلات الدولية. وعليه فإن معظم الأزمات الأمنية التي يشهدها عصرنا، تستدعي تبني حلول قائمة على العمل الشرطي - وليس العسكري- نظراً للدعم الشعبي المحلي للجهود الشرطية، خلافاً للسخط الشعبي الذي يثيره التدخل العسكري. والمتوقع أن يبدي العالم تعاطفاً كبيراً مع وعود وعهود أوباما بتغيير صورة علاقة بلاده مع بقية شعوب العالم ودوله. وعليه أن يستثمر كل قدراته القيادية في كيفية التعامل مع ديناميات عالمنا المتشابك. ------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"