‏إذا كان صحيحاً أن ما يجعلنا نشعر اليوم بأن الخلدونية أقرب إلينا من أنفسنا هو أنها تُحدثنا عما لم نعد بعدُ قادرين على الكلام فيه، أي على مواجهته بالتحليل والتعرية والنقد، فإنه لصحيح كذلك أن ما يبعدها عنا هو أنها كانت وما تزال ذات بعد واحد: إنه البعد الذي يتحدد بالاتجاه إلى الماضي والإعراض عن المستقبل. وإذن فلابد من تحرير الخلدونية من قيود هذا البعد الواحد بجعلها تتجه إلى المستقبل بالاهتمام نفسه الذي اتجهت به إلى الماضي أو أكثر، حتى يغدو في الإمكان جعلها فعلاً معاصرة لنا وبالتالي تحويلها إلى مشروع قابل للتحقيق: للإغناء ‏والتطوير. ‏ لقد تحدث ابن خلدون عن كل شيء إلا عن المستقبل، وحتى قضايا الحاضر التي تحدث عنها لم يكن يهمه منها إلا ما كان لها من دلالة بالنسبة إلى الماضي، ‏أما المستقبل فلقد كان غائباً تماماً عن مجال اهتمامه، إذ لا نجد له أي أثر في تفكيره، لا على شكل حلم فلسفي ولا على شكل دعوة إصلاحية ولا على صور موعظة أو عبرة. ولم يكن هذا الموقف منه من غير وعي، بل لقد فعل ذلك لأن ‏هدفه كان تشييد نظرية في المجتمع العربي تصلح لتفسير تاريخه وتصحيح معرفة الناس بهذا التاريخ. وكان يرى أن هذا هو ما يميز فعلًا عمله الجديد عن سائر علوم عصره. لقد كان اهتمامه منصرفاً إلى الممكن الذي حصل، لا إلى الممكن الذي سيحصل. ‏ومع ذلك فإن هذا الموقف ذاته يطرح علينا، بل على الخلدونية نفسها، مهمة تفسيره. بل لعل هذه هي أولى المهام التي يجب إنجازها على طريق إحياء الخلدونية وتطويرها وذلك لأن تفسير سكوت ابن خلدون عن المستقبل قد يساعدنا على فهم السبب في بقاء الخلدونية من دون مستقبل. ‏هناك تناقضات داخلية وعوائق إبستيمولوجية جعلت علم العمران الخلدوني محكوما عليه، من الناحية المنطقية والإبستيمولوجية بأن يظل جامداً في "المقدمة" مشدوداً إلى المنظومة الأرسطية ومنطقها السكوني: لقد تصور ابن خلدون العمران البشري بمنطق طبيعيات عصره، وهي طبيعيات أرسطو نفسها، فنظر إلى الظواهر الاجتماعية والظواهر الطبيعية نظرة واحدة. وهكذا ‏فكما أن ظواهر الطبيعة مثل كون الجسم يتحرك إلى أسفل والنار تحرق والشمس تضيء... هي "ظواهر تحدث بالطبع"، ‏فكذلك الظواهر الاجتماعية من: ضرورة الاجتماع، إلى وجود العصبية في أهل البادية، إلى كون الغاية التي تجري إليها ‏العصبية هي الملك، إلى كون هذا الأخير يستتبع ولابد الانفراد بالمجد... كل هذه الظواهر ومثيلاتها تحدث في العمران "بمقتضى طبعه ليس وقوعها عنه باختيار وإنما هو بضرورة الوجود وترتيبه". وواضح أن هذا المنطق، منطق الطبع والطبائع يجعل صاحبه لا يرى في التطور شيئاً آخر سوى تكرار ما حدث: التاريخ يكرر نفسه. والحاضر أشبه بالآتي من الماء بالماء! ومن هنا تلك ‏الدورة العصبية التي فسر بها ابن خلدون التاريخ الإسلامي إلى عهده، والتي جعلت فلسفته التاريخية فلسفة مغلقة خالية من كل تطلع أو استشراف مستقبلي. صحيح أن ابن خلدون قد أكد مراراً وتكراراً على ضرورة التفسير والتعليل، وأنه يهدف بمشروعه إلى بيان العلل والأسباب لا إلى الوعظ والإرشاد، ولكن صحيح كذلك أنه كان يفهم السببية بمعنى الطبع والطبيعة، وحتى فكرة "العادة" التي جعلها الأشاعرة -وابن خلدون واحد منهم - بديلاً لمفهوم السببية الفلسفية، قد حولها إلى "مستقر العادة" أي إلى "طبع وطبيعة". ‏يتعلق الأمر، إذن، بمفاهيم وتصورات، ولنقل ببنية عقلية، لم يكن من الممكن أن تسمح لابن خلدون بأي استشراف مسقبلي يستجيب ويتلاءم مع منطلقه. لقد انطلق ابن خلدون من تحليل الواقع فرفض الوعظ والإرشاد (الخطابة) كما رفض الحلم الفلسفي (السياسة المدنية) ولم يبق أمامه من حديث عن المستقبل إلا ذلك الذي ينطلق من التخطيط العقلاني لتغيير الواقع بوسائل الواقع نفسه، وهذا بالضبط ما لم يكن من الممكن أن يفعله ولا أن يفكر فيه، وبالتالي فإن سكوته عن المستقبل لم يكن مجرد سكوت، بل كان عدم قدرة على الكلام. ‏لنوضح هذه الدعوى بقدر ما يسمح به المقام. ‏قد يكون من لغو الكلام التأكيد هنا على أهمية بل ضرورة ربط الفكر بالواقع. وإذا كان من الممكن للمرء أن يناقش في درجة صحة قولة ماركس الشهيرة: "ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم، بل إن وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم"، فإن قولته الأخرى "إن الإنسانية لا تطرح من المشاكل إلا تلك التي تقدر على حلها" تبدو هي الأخرى كبديهية لا مجال للطعن فيها. لقد كان وعي ابن خلدون -تطلعاته، واستشرافاته، همومه ومشاغله- محدوداً ومشروطاً بالواقع الاجتماعي الذي عاش فيه. وبما أن ذلك الواقع لم يكن قد أفرز بعد عناصر تغييره، أي العناصر التي تلغيه وتقوم مقامه، فإنه لم يكن من الممكن لابن خلدون طرح مشكلة المستقبل. إن الإنسانية في عهده لم تكن قادرة على حل هذه المشكلة، ولذلك ربطتها بقدرة فوق- ‏إنسانية يعبر عنها البعض بـ"القضاء والقدر"، والبعض الآخر بـ"الطبع" أو "الطبيعة"، ‏وقد جمع بينهما ابن خلدون حينما ربط التحرك التاريخي بالعصبية -وهي عنده من طبائع العمران- وبالدعوة الدينية التي تعمل على جمع القلوب، وهذا ‏مرهون بالمشيئة الإلهية. ‏لقد خاض ابن خلدون تجربته السياسية، التي ساهمت بقسط كبير في تشكيل تفكيره وتوجيه رؤاه وتحديد إشكاليته، في مجتمع قبلي، مجتمع المغرب العربي في القرن الرابع عشر، حيث كانت العصبية القبلية تشكل بالفعل الإطار التنظيمي الوحيد والفعال الذي يتم بواسطته ومن خلاله التعبير عن التناقضات الاجتماعية والطموحات السياسية التي نعزوها نحن اليوم إلى العوامل الاقتصادية، أي أسبابها الحقيقية التي تحكمها وتوجهها. إن هذا لا يعني غياب العامل الاقتصادي في الواقع الاجتماعي الذي حلله ابن خلدون ولا غيابه في فكر صاحب "المقدمة"، بل كل ما في الأمر، وهذا ما يجب أخذه بعين الاعتبار، ‏هو أن الاقتصاد آنئذ لم يكن من القوة بحيث يطغى على العلاقات الاجتماعية. وكما يقول جورج لوكاش إن الاقتصاد في مجتمعات ما قبل الرأسمالية لم يكن قد وصل بعد إلى مستوى الكائن- في ذاته، الأمر الذي جعل الوعي الطبقي غير قادر لا على الظهور بمظهر واضح ولا على التأثير بوعي في الحوادث التاريخية. إن الوعي العصبي (الطائفي) بوصفه عاملًا تاريخياً ملموساً يخفي ‏ويقنِّع الوعي الطبقي ويمنعه حتى من إظهار نفسه. وبعبارة أخرى ‏إن عدم تبلور العامل الاقتصادي كعامل يستقطب العوامل الفاعلة الأخرى ويتحكم فيها جعل النظرة "الواقعية" للتاريخ تغيب كل حديث موضوعي عن المستقبل. ‏لم يكن من الممكن، إذن، أن يرى ابن خلدون غير ما رأى ولا أكثر مما رأى، ليس بسبب العوائق الإبستيمولوجية التي أبرزتها من قبل وحسب، بل أيضاً لأن الواقع الاجتماعي- التاريخي الذي عاش فيه لم يكن يسمح بأي حديث موضوعي غير حديث العصبية والدورة العصبية. لقد كانت ظاهرة العصبية آنذاك عائقاً لتطور المجتمع، وبالتالي عائقاً للفكر عن تبين العوامل الخفية المتحكمة في الواقع الاجتماعي التاريخي، الأمر الذي يستحيل من دونه الحديث عن المستقبل. نخلص من كل ما تقدم إلى أن ‏الخلدونية مشروع نظري وواقع حضاري. إنها في آن واحد نظرية في التاريخ العربي وجزء من هذا التاريخ نفسه. وعلى رغم أننا أكدنا، ‏ونؤكد، أن ما يستهوينا ويبهرنا فيها هو أنها تتحدث إلينا عما لم نستطع نحن الكلام فيه بعد، فلابد من التأكيد من جهة أخرى على أنه لا يمكن أن نحققها نظرياً إلا إذا ألغيناها واقعياً. وبعبارة أخرى، يجب أن نتجاوز بالتحليل والنقد الخلدونية كواقع حضاري ما زال يكبل مجتمعنا ‏لنحصل على الخلدونية كنظرية مستقبلية تخطط لنهضتنا. وهذا ما لن يتم لنا إلا إذا تحررنا من عوائقها الإبستيمولوجية وجعلناها ترى في حاضرنا نحن ما لم تكن تراه في حاضرها هي. إنه البعد الاقتصادي في الصراعات الاجتماعية في الوطن العربي الذي يجب رصده وراء التطرف الديني والنزاعات الطائفية والتحركات العشائرية، في الماضي والحاضر. إن إبراز هذا البعد معناه كسر عوائق التطور في مجتمعنا وتحرير عقولنا من سيطرة اللامعقول. إن دعوة المستقبل، بل رسالته، تطلب منا تحرير واقعنا من السلاسل والقيود الفكرية والمجتمعية التي جعلت ‏الخلدونية تبقى من دون مستقبل وتهددنا نحن كذلك بالمصير نفسه. ‏إن ما تبقى من الخلدونية هو ما يجب أن ننجزه وليس ما أنجزته.