يشير الواقع الإقليمي والدولي اليوم إلى أن الخليج العربي بات في مفترق طرق، فإما الصعود أو الركود، ولكنه لن يظل على حاله، فربما تكون هناك فرصة تاريخية للاختيار واتخاذ القرار المناسب للاستفادة من هذا الواقع أو على الأقل حسن التعامل معه بما يقلل الخسائر ويزيد العائد، فهي فرصة أكثر من كونها وقفة لمراجعة الذات والانكفاء على المشكلات الداخلية، كما أنها تكرِّس لبداية مرحلة مغايرة لما قبلها تحتاج إلى عمل جاد وجهد دؤوب ومواقف فاعلة، وليس الانتظار والترقب ثم رد الفعل. تواجه دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية اليوم أزمات متعددة ومتشابكة، إقليمية ودولية، تضعها في مواجهة مصيرية تفرض عليها اتخاذ قرار سيتوقف عليه مستقبلها. وتقف هذه الدول أمام متغيرات خطرة، من بينها الأزمة المالية العالمية وأزمة الائتمان العقاري العالمية وتداعياتهما الإقليمية والمحلية، وتراجع أسعار النفط بنسبة تزيد على 60%، وانعكاسات ذلك على خطط التنمية المستدامة، وأزمة إيران الدولية -الإقليمية المستمرة نتيجة الشكوك المحيطة بحقيقة توجهها النووي، بالإضافة إلى الصراع الدائر حول العراق وفي العراق الذي جعل كيان الدولة العراقية يتهاوى في صراع طائفي ويصبح ميداناً لتصفية الحسابات في الداخل والخارج، والأزمة الدستورية المستمرة في الكويت التي تُلهي الدولة الكويتية وتغيبها عن المشاركة الفاعلة في القضايا الإقليمية، فضلاً عن الأزمة الحاضرة الغائبة بشأن الإصلاح السياسي في دول الخليج، وهي القضية التي تنشط فترة وتخبو فترات، ناهيك عن التردي الخطير في أسواق الأسهم الخليجية التي تفقد مليارات الدولارات يومياً. كل هذه الأزمات تضع دول مجلس التعاون على المحك أمام قدرها ومستقبلها، وربما نجد أن هناك ترابطاً وانعكاساً متبادلاً بين بعض الأزمات، فالتوجه نحو حسم البرنامج النووي الإيراني بالطرق العسكرية، في مقابل إصرار إيران على عدم الانصياع لإرادة المجتمع الدولي من جانب، والتصريحات والإجراءات الاستفزازية من جانب آخر، كل ذلك يتأثر بشدة بالأزمة المالية العالمية وتباطؤ الاقتصاد العالمي من جراء الركود، وكذلك بالوضع في أسواق النفط، مما قد يؤجِّل عملية حسم الملف النووي الإيراني إلى فترة طويلة مقبلة. لذا فإن العالم يشهد الآن ولادة قيصرية لتغيرات عدة في موازين القوى وشكل وطبيعة عمل النظام الدولي، مثل ظهور ما يعرفه بعض المحللين باسم العالم الثاني الذي يضم اقتصادات ناشئة كبيرة مثل الصين وروسيا الاتحادية والهند، والاهتمام المتزايد بدور الخليج العربي على صعيدي الطاقة والأمن، وهذه التغيرات تضع دول مجلس التعاون في مواجهة تأسيس استراتيجية دبلوماسية ووضع سياسة خارجية إزاء دول الجوار. ومن المهم الاعتراف بأن التراجع الحاد في أسواق الأسهم الخليجية نتيجة للمضاربات، وعدم انعكاس الطفرة الاقتصادية لبعض دول الخليج على السواد الأعظم من المواطنين، علاوة على التوقعات بأن تمدَّ دول مجلس التعاون الخليجي الغنية يد العون لإنقاذ دول أخرى، بالإضافة إلى استمرار معدلات التضخم العالية، قد أثار موجات من الغضب في الداخل، كما أن سلسلة التفاعلات الانشطارية الناتجة عن الأزمة المالية العالمية وتراجع معظم الأصول الرأسمالية الذي أدى إلى تفاقم أزمة السيولة، لم يكن له مردود مؤثر في أسعار العقارات والمواد الغذائية في دول مجلس التعاون، الأمر الذي يزيد من حالة الاضطراب وعدم الأمان المجتمعي في داخل معظم دول الخليج. ومن ناحية أخرى نجد أن دول مجلس التعاون الخليجي أضحت اليوم "الطازج" الذي يقع بين شاطر إيراني ومشطور أميركي، أي أنها باتت الضحية والجائزة في آن واحد، فهي ضحية أي صراع عسكري قد ينشب في المنطقة بين طرفي "الساندويتش"، وهي أيضاً الجائزة التي ستكون من نصيب المنتصر، وقد افتقدت هذه الدول القدرة على الفعل والتأثير في الوضع الإقليمي حتى الآن، والمطلوب اليوم التوقف عن التصريحات الفردية الصماء التي لا تسمن ولا تغني من جوع، واتخاذ موقف مُوحَّد تجاه كل من إيران والولايات المتحدة لوضع الأمور في نصابها سواء من حيث انصياع ملالي الجمهورية الإسلامية للقرارات الدولية، أو أن تأخذ الإدارة الأميركية الحالية (الأوبامية) مصالح دول مجلس التعاون الخليجي الحيوية والاستراتيجية بعين الاعتبار عند تعاملها مع إيران. وكذلك نجد أن التراجع الحاد في أسعار النفط أحد تداعيات الأزمة المالية العالمية، إلا أنه في الوقت نفسه يزيد من أثر تداعيات هذه الأزمة على دول مجلس التعاون وخططها العامة للنمو ويثير الكثير من التساؤلات حول قدرة هذه الدول على الاستمرار في الطفرة العقارية، فضلاً عن الأزمة السياسية المستمرة في الكويت حول صراع الإرادات بين مجلس الأمة والحكومة، والتي تزيد من تفاقم الأوضاع الداخلية وتشلُّ من حركة الدولة الكويتية في مواجهة التهديدات والمخاطر المحيطة بها، سواء من العراق أو إيران أو الأزمة المالية، كما أن الأزمة المالية العالمية تلقي بظلالها على الأوضاع المتردية في العراق وتزيدها سوءاً، حيث تعجز كثير من الدول عن الوفاء بالمساعدات والمعونات التي تقدِّمها للعراق، ما يدفع الوضع المعيشي في العراق إلى مزيد من التدهور ومن ثم تفاقم الوضع الأمني. ثمة قلق بالغ يراود دول مجلس التعاون الخليجي بشأن عجزها عن وقف هبوط أسعار النفط التي خسرت حتى الآن نحو ثلثي قيمتها، فالعوامل الأساسية المتعلقة بالعرض والطلب يبدو وكأنها لا تبرِّر هذا الهبوط الحاد الحالي في الأسعار، وفي حين يُرجع العديد من المراقبين هبوط أسعار النفط في السوق العالمية إلى تداعيات الأزمة المالية العالمية نتيجة دخول الاقتصاد الدولي في حالة من الركود، فإن هناك حاجة لاتخاذ قرارات مناسبة للحفاظ على مستوى معين لأسعار النفط يضمن استمرار دول المجلس في خططها العمرانية والتنموية، وهذا لن يتأتى سوى بالعمل الجماعي وممارسة إرادة القرار. وإذا نظرنا بعمق إلى أبعاد الأزمة السياسية المثارة مؤخراً في الكويت، على خلفية سماح الحكومة بدخول مرجع ديني إيراني إلى البلاد، برغم وجود حظر رسمي عليه لاتهامه بالتطاول على الذات الإلهية وسبِّ صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه يدق إسفيناً جديداً يزيد من النعرة الطائفية داخل الكويت اللصيقة بالصراع الطائفي في العراق، كما أنه يصب في خانة التأزيم والهدم للحياة السياسية والسعي إلى فرض أجندات خاصة على حساب المصلحة العامة، وكل ذلك يقوِّض من دور الدولة الكويتية في معالجة الأمور الإقليمية والإسهام بشكل فاعل في القضايا المؤثرة على مصير الخليج، كما أن الأزمة السياسية في الكويت تثير تساؤلاً مهماً هو: إلى أي حد يمكن لحكومات الخليج قبول نتائج الديمقراطية، خاصة إذا مسَّتها بشكل مباشر؟ وهذا يقودنا مباشرة إلى ملف الإصلاح السياسي في الخليج، الذي خمد تماماً وأصبح في طي النسيان على الرغم من قوة بداياته عامي 2004 و2005، حيث فجَّر حينها لدى المواطنين طموحات كبيرة، إلا أن الوضع الراهن يقود بالضرورة إلى تزايد مساحات الاحتقان والتوتر داخل المجتمعات الخليجية، ويؤثر بشدة في قيام دولة المواطنة، الأمر الذي يتيح للولاءات القبلية والمذهبية والعرقية الفرصة للظهور بقوة وبشكل قد يسمِّم السلام الاجتماعي، خاصة في ظل العزف على وتر "التشيُّع" والخطر الشيعي. من المهم اليوم أن تقوم دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية بتحديد هدفها الاستراتيجي بكل وضوح ودقة وشفافية: هل تريد أن تظل في حالة ركود أم تسعى إلى الصعود؟ لأنه بناء على هذا الهدف ستحدَّد استراتيجية وسياسة هذه الدول تجاه المستقبل، مع التفكير الجدي في أن أي مساعدات أو قروض مالية ستقدمها دول المجلس لإقالة النظام المالي العالمي من عثرته يجب ألا تكون بلا مقابل أو مردود استراتيجي، سياسي أو اقتصادي، على مستقبل هذه الدول ومصالحها الحيوية، فقد ولى زمن التكية و"أبو بلاش".