"الناتو"وكبح الاندفاع شرقاً
تقع قرية"أوشجولي" في وادٍ يانع الخضرة، يقع بدوره في أقصى شمال جمهورية جورجيا. وتتكون هذه القرية المطوقة بجبال القوقاز، التي تكلل هاماتها الثلوج، من عدد من البيوت الرمادية اللون المحاطة بجداول الماء. وفي آخر زيارة لي لهذه القرية طاف بي بعض كبار السن من سكان القرية على الأبراج التاريخية الموزعة في أنحائها، والتي كانت تستخدم لأغراض الدفاع قديماً، ولم تعد لها قيمة تذكر اليوم سوى قيمتها التاريخية.
في الوقت الراهن، تحث الولايات المتحدة وأوروبا الخطى على طريق يمكن أن ينتهي بأن تصبح هذه القرية الجميلة هي الحد الشرقي لحلف "الناتو"، فخلال الأسبوع الماضي اجتمع ممثلو 26 دولة تمثل دول الحلف في بروكسل لتحديد الشروط التي سيتعين على كل من جورجيا وأوكرانيا استيفاءها قبل الانضمام لـ"الناتو". وفي اعتقادي أن تلك الدول يجب أن تتريث قليلًا، وإلا خاطرت بتحويل أنجح حلف عسكري في العالم، إلى شيء غير ذي شأن تماماً مثل الأبراج والقلاع التاريخية الواقعة في هذه القرية.
في شهر أبريل الماضي، أرجأ "الناتو" النظر في طلبي العضوية التي تقدمت بهما الدولتان المذكورتان، ولكنه وعد بمراجعة الأمر مرة ثانية في ديسمبر الجاري. ولكن الحرب التي اندلعت في القوقاز بين روسيا وجورجيا في أغسطس الماضي، أدت إلى زيادة حدة النقاش الدائر حول تلك المسألة، حيث رأى بعض المراقبين الغربيين أن التدخل العسكري الروسي في جورجيا، أظهر بجلاء مدى الحاجة لتوسيع الحلف، وكبح جماح طموحات موسكو الإمبريالية.وبدون ضمانات أمنية لجورجيا وأوكرانيا من جانب الحلف، فإن الدولتين ستجدان نفسيهما معرضتين لتهديد تتزايد درجته باستمرار من روسيا.
وبالنسبة لقادة البلدين في كييف وتبليسي، فإن الميزة الجوهرية التي يمكن لهما الحصول عليها من عضوية "الناتو"، تكمن في المادة الخامسة من معاهدة حلف شمال الأطلسي التي تم إنشاء الحلف على أساسها عام 1949. والتي تنص على أن:"أي هجوم مسلح ضد دولة أو أكثر من الدول الأعضاء في الحلف سواء في أوروبا أو أميركا الشمالية يعتبر اعتداء على جميع الدول". حتى الآن لم يطبق الحلف المادة الخامسة سوى مرة واحدة، وذلك في الأسابيع التي تلت هجوم الحادي عشر من سبتمبر الإرهابي عام 2002، عندما وفرت الطائرات الحربية التابعة لما يزيد عن 12دولة من الدول الأعضاء في الحلف مساعدات أمنية واستخبارية في المجال الجوي الممتد فوق شرق الولايات المتحدة الأميركية.
وأوكرانيا وجورجيا ليستا من الدول المرشحة للحصول على العضوية الكاملة قريباً. فالمسألة المطروحة هذا السياق هو ما إذا كان سيتم إلزام الدولتين فقط بما يعرف بـ"خطة العمل الخاصة بالعضوية"، التي تحدد أهدافاً محددة يجب عليهما تحقيقها قبل السماح لهما بالبدء رسمياً في إجراءات الانضمام الرسمي للحلف.
إدارة بوش تضغط على حلفاء أميركا في "الناتو" من أجل الدفع في اتجاه إلزام الدولتين "خطة العمل الخاصة بالعضوية" التي تعتبر شرطاً مخففاً مقارنة بالشروط، التي ألزمت بها الدول التي تقدمت بطلب عضوية الحزب في الماضي.
فالدول التي انضمت إلى الحلف منذ نهاية الشيوعية، وهي التي كانت تدور في الفلك السوفييتي مثل بولندا ورومانيا، وتلك التي كانت ضمن جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق مثل ليتوانيا وأستونيا، أُخضعت لمعايير انضمام صارمة، حيث طلب منها إثبات قدرتها على المساهمة في تحقيق أمن الحلف بشكل عام، وليس الاستفادة فقط من الضمان الأمني الذي تنص عليه المادة الخامسة. وهذا النهج حقق نتائج لافتة للنظر منها تحقيق اتفاقية سلام تاريخية بين رومانيا والمجر، وتطبيق قوانين أكثر صرامة لحماية حقوق الأقليات في دول البلطيق، وتعزيز سيطرة المدنيين على المؤسسة العسكرية في بولندا.
لم ينطبق هذا الأمر على حالة جورجيا وأوكرانيا. ففي أبريل الماضي أوضح قادة الحلف بجلاء أن الدولتين: سيصبحان عضوين في الناتو"دون أن يحددوا موعداً دقيقاً لذلك. والمضي قدماً الآن في استيفاء معايير"خطة العمل الخاصة بالعضوية" سيسير بالحلف في طريق نهايته معروفة سلفاً، ألا وهي مد حدوده إلى السواحل الشرقية للبحر الأسود، وقمم جبال القوقاز الوعرة.
هناك عدة أشياء يمكن لأعضاء "الناتو" أن يقوموا بها لإبطاء وتيرة الاندفاع شرقاً:
أولاً، يجب على "الناتو" أن يطلب من كييف وتبليسي تحقيق تقدم حقيقي قبل تحديد معايير"خطة العمل الخاصة بالعضوية"، فجورجيا مثلًا استخدمت القوة العسكرية ضد مواطنيها ثلاث مرات خلال الخمسة عشر عاماً الماضية، ولا يوجد لديها إعلام مستقل، كما لم تغير رئيسها أبداً من خلال عقد انتخابات عادية، وخُمس مساحة أراضيها يقع تحت سيطرة حركات انفصالية. أما أوكرانيا، فهي أقرب من جورجيا إلى استيفاء شروط العضوية في الحلف، وخصوصا فيما يتعلق بالحكم الرشيد، ولكن المشكلة بالنسبة لها أن سياسييها ومجتمعها منقسمون حول ما إذا كان الانضمام إلى حلف "الناتو" يعد أمراً مرغوباً في حد ذاته.
ثانياً، إن توسع الحلف شرقاً سيكون له معنى إذا ما ترافق مع توسيع الاتحاد الأوروبي نفسه شرقاً.
الثالث والأخير، أن "الناتو" يجب أن يبذل قصارى جهده لإصلاح علاقاته مع روسيا قبل التحرك لتوسيع تكتل عسكري، تنظر إليه روسيا على أنه يمثل تهديداً كامناً لها.
إن التحرك ببطء في مسألة انضمام أوكرانيا وجورجيا لا يعني الخضوع للمشيئة الروسية، كما لا يعني أيضاً منح موسكو حق نقض غير شرعي على شؤون "الناتو". وإعطاء الدول المختلفة وعوداً لا يستطيع الحلف الوفاء بها، ولدول أثبتت بما لا يدع مجالًا لشك أنها غير قادرة على التحكم في تصرفاتها، وفي منطقة تبعد كثيراً عن مسرح العمليات التقليدي للحلف، سوف يؤدي إلى تقليص قوته لا ريب في نفس الوقت الذي لن يقدم فيه شيئاً ذا بال فيما يتعلق بتحقيق أمن حقيقي للأعضاء الطامحين في الانضمام إليه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تشارلز كنج
رئيس كلية "إدموند إيه. والش" في جامعة جورج تاون
ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"