هناك إجماع بين العلماء الاجتماعيين تبلور في العقود الأخيرة، مبناه أن المناهج السياسية التقليدية لم تعد كافية لفهم السلوك الدولي وتفسيره. ولذلك برزت منهجية التحليل الثقافي كأساس لفهم حالات الصراع والتعاون بين الدول. وليس ذلك فقط ولكن لفهم عمليات التفاعل بين الشعوب والتلاقح بين الثقافات. ومما لاشك فيه أن الثورة الاتصالية الكبرى في عصر العولمة وفي قلبها شبكة الإنترنت، فتحت الباب واسعاً وعريضاً أمام سيل من التدفقات الفكرية والثقافية التي نفذت إلى كل أقطار العالم، وباتت تؤثر في تشكيل اتجاهات الجماهير وإعادة صياغة أنساق القيم السائدة. ويرد ذلك إلى أن العالم في ظل "الاتصالية" Connectivity التي أصبحت سمته البارزة، تجاوز بكثير مفهوم القرية الكونية الذي كان في الماضي مجرد استعارة تشير إلى التقارب بين دول العالم وإلى ظاهرة الاعتماد المتبادل فيما بينها. أصبحت الآن القرية الكونية حقيقة واقعة ملموسة وليست مجرد استعارة. ويمكن القول إنه في العقود الماضية وفي غيبة وسائل سريعة للاتصال والتفاعل، سادت صور نمطية Stereotypes عن الشعوب والثقافات، وخصوصاً بالنسبة للشعوب العربية والثقافة الإسلامية. وقد ساعدت على نشر هذه الصور النمطية الدراسات الاستشرافية التي كتبها باحثون غربيون متحيزون، كانت لهم مصلحة في تشويه صورة العرب والمسلمين. وذلك لأن عديداً منهم نشأوا في أحضان السلطات الاستعمارية الغربية التي احتلت بلاداً عربية متعددة، وكان دورهم تشويه هذه البلاد ونعتها بأنها متخلفة وشعوبها بربرية، لترويج أسطورة "عبء الرجل الأبيض"، الذي يقع على عاتقه تمدين هذه البلاد وتثقيف شعوبها! ومن هنا، يمكن القول إن بروز ثورة الاتصالات الكبرى يعد فرصة مواتية لنا في العالم العربي لتصحيح صورة الشخصية العربية والثقافية الإسلامية، من خلال حوار ثقافي متصل يقوم على عدة مبادئ أساسية. وفي تقديرنا أننا في حاجة إلى وضع قواعد منهجية لهذا الحوار الثقافي، وخصوصاً بعد أن زاد طلب عديد من الهيئات الثقافية والمراكز السياسية الغربية لإقامة حوارات ثقافية مع العرب والمسلمين. وتأتي مبادرة حوار الأديان الذي انعقد في مقر الأمم المتحدة بمبادرة من خادم الحرمين الملك عبدالله بن عبدالعزيز في هذا السياق، ونقصد أهمية تصحيح المفاهيم الغربية المغلوطة عنا، سواء اتخذ هذا الحوار صيغة حوار الأديان، أو صورة الحوار الثقافي المتكامل، الذي يقوم على مبدأ أنه ليست هناك ثقافة أسمى من ثقافة، وعلى أساس قاعدة الندية المعرفية بيننا وبين الغرب. والذي يدعو إلى هذه المبادرة الحضارية السياق التاريخي الذي يمر به العالم وخصوصاً بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، التي أعلنت فيها الولايات المتحدة الأميركية حربها ضد الإرهاب تحت شعار "من ليس معنا فهو ضدنا"، واتسمت بتصعيد الحملة على الإسلام ذاته باعتباره -كما يزعمون- ديناً يحض على العنف، وعلى العرب والمسلمين باعتبارهم "إرهابيين" بالطبيعة. ولا يمكن فهم الصور النمطية عن العرب والمسلمين التي ركزت عليها الدوائر السياسية ووسائل الإعلام الأميركية، بغير إطلالة تاريخية موجزة على العلاقات بين العرب والغرب. وحين نفعل ذلك سندرك أن وصف العربي أو المسلم بأنه "إرهابي" بالطبيعة وأنه متخلف ومعادٍ لقيم الحضارة الحديثة، يجد مصادره في التراث الثقافي الغربي الذي تبلور عبر الزمن، نتيجة الغزو العربي الذي تم في القرنين السابع والثامن أساساً، والذي تمثل في عبور الجيوش الإسلامية البحر الأبيض المتوسط، واحتلال الأندلس، والنفاذ إلى أعماق فرنسا. وهناك أيضاً الحروب الصليبية، ثم مرحلة الغزو الاستعماري للعالم العربي، منذ بدايات القرن التاسع عشر حتى النصف الثاني من القرن العشرين. وإذا تركنا هذه الخلفيات التاريخية جانباً فإنه لابد لنا أن نثير السؤال: ما هي أهم عناصر المبادرة الحضارية العربية التي ندعو إلى صياغتها؟ نستطيع أن نحدد أهم عناصر هذه المبادرة في عدد من الأفكار الأساسية: هناك ضرورة أولاً من خلال الحوار الثقافي بين العالم العربي والعالم الغربي لصياغة مفهوم لتحقيق السلام العالمي، يقوم على أساس تعريف محدد للعدل باعتباره إنصافاً Fairness. ونحن في الواقع نقتبس هذا التعريف من كتاب الفيلسوف الأميركي الليبرالي "جون رولز" الموسوم: "نظرية عن العدل"، وقد قرأت هذا الكتاب الشهير منذ سنوات طويلة، واهتممت به اهتماماً خاصاً في بحوثي ومحاضراتي، لأنه أول فيلسوف ليبرالي يقرر أن العدل يقوم على أساس مبدأين رئيسيين: الحرية السياسية، والعدالة الاجتماعية. وفي ضوء ذلك، يمكن القول إن السلام العالمي الذي لا يحقق الحرية السياسية للشعوب المحتلة ليس سلاماً في الواقع، وعلى ذلك فإن عجز المجتمع الدولي حتى الآن عن تحقيق السلام العادل للشعب الفلسطيني الذي يواجه بحرب إبادة منظمة من قبل الدولة الإسرائيلية العنصرية، قد فشل في صياغة هذا المفهوم للسلام الذي ينبغي أن يقوم -كما أكدنا- على الإنصاف. والفكرة الثانية المحورية التي ينبغي على المبادرة الحضارية أن تتعرض لها هي الربط بين تحقق السلام العالمي والمواجهة الفعالة لسلبيات العولمة الاقتصادية بشكل حاسم. وهذه السلبيات ترد أساساً إلى محاولة الدول الصناعية الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، الهيمنة بطريقتها على السوق الرأسمالية العالمية بما يضمن لها أن تحقق أرباحاً خيالية وذلك على حساب الدول النامية. وقد تحققت تنبؤات نقاد العولمة الذين أكدوا أنها لا يمكن أن تستمر في ضوء إطلاق عنان الرأسمالية المتوحشة. فقد حدث الانهيار المالي والاقتصادي الكبير في الولايات المتحدة الأميركية، وسرعان ما أغرق فيضان الانهيار الاقتصادات الأوروبية والآسيوية والعربية. وكل هذه التطورات من شأنها أن تهدد السلام العالمي، لأنها ستخفض من نوعية حياة ملايين البشر، وستدفع بمئات الآلاف من العمال إلى البطالة. ومن ناحية أخرى، برزت ممارسات استعمارية في السنوات الأخيرة تحت شعار "حق التدخل السياسي". وهذا الشعار ابتدعته الولايات المتحدة الأميركية لتغيير النظم السياسية التي ترى هي بإرادتها المنفردة وحتى ضد كل قواعد الشرعية الدولية، أنها شمولية أو سلطوية. وهذا التغيير يمكن -في العرف الأميركي- أن يتم بالقوة المسلحة كما حدث في الغزو العسكري للعراق، الذي كان الغرض المعلن له تحويله إلى نموذج للديمقراطية يمكن أن تحتذي به باقي البلاد العربية! وفي تقديرنا أن حق التدخل السياسي الذي لا شرعية له من وجهة نظر القانون الدولي، وسواء تم لأغراض إنسانية أو سياسية لابد من تقنينه، ومن هنا أهمية أن تشمله المبادرة الحضارية العربية التي ندعو إلى صياغتها. وفي هذا الإطار، لابد من التمييز الدقيق بين المقاومة المشروعة للشعوب التي تقع في قبضة الاحتلال الأجنبي، وبين الإرهاب. وذلك لأن الدول الغربية كثيراً ما تخلط عامدة متعمدة بين الإرهاب وحق الشعوب مثل الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي. ولابد من دعوة الدول الغربية إلى ضرورة وضع سياسات ثقافية رشيدة للتعامل مع المواطنين من أصول عربية وإسلامية في ضوء قواعد المواطنة المعترف بها دولياً. وأخيراً، لابد من مواجهة العنصرية الغربية الجديدة، من خلال التحالف الثقافي بين المثقفين العرب والمثقفين الغربيين التقدميين الذين يحاربون في بلادهم التيارات العنصرية الجديدة. ولا يعني ذلك أن المبادرة الحضارية ستقتصر على مطالبات للدول الغربية، وإنما عليها أيضاً وضع سياسات ثقافية وتنموية شاملة في البلاد العربية والإسلامية، لمواجهة الفكر المتطرف والجماعات والمنظمات الإرهابية.