مشكلات النظرة الحدية
أميركا ليست أم الشرور، ولا إسرائيل وحدها مصدر الأخطار، بل نحن من هيأ الجو، وغام عليه الفهم فأعشى. وحين يتحول العرب إلى نموذج الصين، فلن تكون إسرائيل سوى فرموزا الشرق الأوسط.. والحكم على أميركا لا ينبغي أن ينبع من أسود أو أبيض، فهي ماكينة عاتية تقوم على المصالح والأموال كما كانت روما يوماً.. تحكمها الثروات والأوليجاركية.
ولولا حرب عام 1991 وقيام صدام حسين بإرسال صواريخه على السعودية وإسرائيل تنظر، ما فهمنا عمق المرض الداخلي. ولولا اقتتال "فتح" و"حماس" ما فهمنا أيضاً تناقضنا الداخلي.
والقرآن الكريم يقول: "فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم". وحين أسمع إطلاق سراح سجناء من "فتح"، كانوا في أقبية "حماس" أو بالعكس، أتذكر قوله تعالى: "وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم"! أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض، فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا..
وفي ضوء أفكار من هذا النوع يجب أن نفهم أميركا والعالم وأنفسنا... خارج لعبة الثنائية والحلول الحدية.
ويذهب القرآن إلى عدم اعتبار الشر شراً بل قد يكون خيراً: "لا تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم". وكثير من الأخسرين أعمالاً ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
والمنافقون يفسدون في الأرض ويظنون أنهم "مصلحون"!
وطبقات النفس البشرية حقيقة كشف اللثام عنها علم النفس التحليلي وسماها "اللاشعور". وفي الفلسفة حيرت مشكلة الشر العقول، ومعنى هذا الكون المليء بالظلم وعدم الاكتمال. لكنها مسألة يمكن فهمها ضمن "بانوراما" كونية، وليس ضمن فكرة "الثنائية"، فالشر ليس شراً، كما يقول الفيلسوف "ابكتيتوس"، بل "درجة" في الخير حسب علاقتنا به، والحياة مائدة عامرة دعانا الله إليها؛ فإذا انتهت، وجب أن نشكر صاحب الوليمة وننصرف شاكرين حامدين لا باكين نادبين.
وهذه الفكرة تتصل بمفهوم البوذية عن "الصيرورة"، باعتبار الحياة حركةً فوق جسر، فمن أراد الوقوف على الجسر أعاق المرور وعانى. فيجب الاستسلام إلى السياق الكوني..
وقد نجح الفقهاء في استيعاب هذه المنظومة على أساس الطيف وليس الاستقطاب، من خمس محطات تواترية بين الحرام مرورا بالمكروه ثم المباح وصولا إلى المستحب وانتهاءً بالواجب.
والكهرباء حركة بين السالب والموجب، وليست قراراً عند أحد القطبين المتناقضين. ولا تسبح النفس في حركة فعّالة أكثر من السباحة بين قطبي الأمل واليأس. "إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون". وعلى أهل القرى أن (لا يأمنوا) أن يأتيهم "بأسنا بياتاً وهم نائمون".
والتحرر من قطبي "الأمل" و"اليأس" يحرر الحركة من الكسل، والطاقة من العطالة، في حين أن الاقتراب من أحد القطبين يعدم الحركة تدريجياً.
وفي السياسة ذهب "مالك بن نبي" إلى أن الضلال السياسي سببه الوقوع بين "الطاهر المقدس" و"الدنس الحقير"، وأن تعاملنا مع إسرائيل يجب أن لا يكون بين حدي "دويلة العصابات" و"التنين النووي"، فإسرائيل ليست هذا ولا ذاك.
وفي حرب صيف 2006 جرت الأفعى ذيلها وانصرفت بعد ما دمرت لبنان. وحين نقع في رهان من هذا النوع نرسل عقولنا إلى إجازة مفتوحة. وكذلك الحال مع أميركا خارج منظومة ثنائية. ويجب النظر إلى الاحتلال الأميركي باعتباره استعماراً بغيضاً، ومن جانب، وعلى أنه خير لكونه حطم أصنام النمرود، من جانب آخر.
وفي الذكرى الخمسين للاحتلال الأميركي لليابان، تملك اليابان احتياطياً من الدولار أكثر من أميركا أم الدولار، بينما يحلق اليورو في ذكرى هزيمة ألمانيا.
وكان سقراط يعتبر أن ذباب الخيل يهيجها ويطرد عنها الخمول. ورأى (توينبي) في إسرائيل رحمة بالعرب، فهي من ستدفعهم للنهوض، فهي هدية التاريخ لهم من حيث لم يحتسبوا!
ولا تتحول الدودة إلى فراشة بدون معاناة تمزيق السجف فتطير. ولا تتم ولادة بدون ألم،
ولا شيء كالنار ينقي المعادن ويطهرها من الشوائب... وخلق الله الإنسان في كبد.