تعتبر جمهورية الهند من أكبر ديمقراطيات العالم الثالث، لكن من الواضح أن جموع الشعب الهندي لم تستفد من هذه الديمقراطية شيئاً يُذكر. بل إن الفقر المرافق للديمقراطية في الهند يفرض سؤالًا مهماً مفاده، لمَ عجزت الديمقراطية عن توفير اللقمة وكرامة الحياة لملايين الشعب الهندي؟ ومما لاشك فيه أن العيب ليس في الديمقراطية بقدر ما يعود إلى الشعب الهندي وتراتبيته الاجتماعية. فالشعب الهندي يؤمن من خلال تراتبية تعسة بالتمايز الطبقي بين الناس، لأسباب تاريخية ودينية، ويكفي أن نشير في هذا المجال الاجتماعي إلى طبقة المنبوذين التي يتزايد عدد الداخلين منها في الدين الإسلامي، دون أن نعلم ما إذا كان هذا التحول يعود لأسباب الفقر، أم الهداية، وإن لم يكن لنا حق التفتيش في النوايا، لكن فقر وعوز وانسحاق هذه الطبقة اجتماعياً يعتبر وصمة عار في جبين الديمقراطية الهندية. ومن يراقب صورة الديمقراطية الهندية يجد انبعاثاً عجيباً لفكرة الداروينية الاجتماعية التي نادى بها هربرت سبنسر، والتي تقضي بعدم مساعدة من لا يستطيع العناية بنفسه اقتصادياً، منادياً بعدم تدخل الدولة لصالح الفقراء والمعوزين. هذه النظرية التي عفا عليها الزمن وتجاوزتها الليبرالية الحديثة في القرن العشرين، نراها وقد انبعثت من رماد التاريخ الليبرالي القديم في صورة إهمال الحكومة الهندية الكلي للفقراء. ومن الأسباب التي تعيق الديمقراطية في الهند التزايد العشوائي في عدد السكان، حيث لا تعلم الحكومة الهندية ذاتها عدد السكان على وجه الدقة. فعدد السكان في الهند قد تجاوز المليار دون شك، ولكن بسبب كثرة القرى الهندية وتباعدها، لا تبدو الإحصائيات الرسمية لعدد السكان دقيقة، الأمر الذي يحول دون فعالية خطط التنمية الاقتصادية. وهو ما يشبه الحالة المصرية. وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار ضعف قيمة العملة الهندية من جانب، وحاجة الهند لاستيراد المواد الأولية بالدولار الأميركي من جانب آخر فإنه من المستبعد تحسن الوضع الاقتصادي للشعب الهندي بشكل عام. إذن ما الذي يجعل الهنود يتفاخرون بديمقراطيتهم التي لا يوجد لها مثيل في دول العالم النائم (نرفض استخدام كلمة النامي لأن الوضع الاقتصادي لهذه الدول سيئ بدرجة غير مسبوقة)؟ الفرق بين الهند وغيرها، ولنقل مقارنة بباكستان الإسلامية، يتجلى في الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي للهند مقارنة بباكستان وبنغلاديش، فخلافاً لباكستان لا يجد العنف الديني مكاناً في الحالة الهندية، كما أن الهند قد تمكنت وباقتدار من التلاؤم مع متطلبات العولمة بسبب قدراتها التقنية الفائقة، وهو ما عجزت باكستان عن تحقيقه بسبب الطبيعة الدينية العنيفة للشعب الباكستاني. إضافة إلى ذلك استطاعت الهند من خلال تاريخها الطويل بتبني النظام الديمقراطي خياراً سياسياً أن تجعل من ديمقراطيتها حقيقة واقعة (اختيار رئيس مسلم لدولة هندوسية دينياً)، خلافاً لباكستان التي تعصف بها الرياح الدينية العنيفة. لكن كل الفضائل التي تتحلى بها الهند لم تحل مشكلة الفقر، ولا يبدو أنها في الطريق إلى ذلك، بسبب الانفجار السكاني والعادات الهندية. ويذكر الدكتور محمد الرميحي في محاضرته حول القضايا الفكرية في مؤتمر "فكر" الذي انعقد مؤخراً في مصر، أن أحد المسؤولين الهنود أخبره، أن الحكومة الهندية لم تستطع الاستفادة من أحد السدود التي كلّفت الدولة أموالًا طائلة، في تنمية الزراعة في إحدى مناطق الهند بسبب معارضة أهل المدينة لبناء هذا السد لأنه يمحو البركة من حياتهم أو ما شابه ذلك. إن الحالة الهندية تعرض لنا تناقضا غريبا بين الفكرة الاقتصادية التي تقوم عليها الديمقراطية، وحالة الفقر التي يعيشها الشعب الهندي. ولهذا السبب يصعب التأكد من استفادة الشعب الهندي من الديمقراطية التي لا تسد جوعه.