حاولنا في المقالات السابقة عرض عناصر "النواة الصلبة" في عملية قراءة ابن خلدون للواقع العربي عبر التاريخ، وهو ما نعبر عنه هنا بـ"الخلدونية". والخلدونية بهذا الاعتبار قسمان: قسم يخص العلاقة بين الذاتي والموضوعي في فكر ابن خلدون جملة، وقسم يخص العلاقة بيننا نحن وبينها، أعني: ما هو صالح في فكر ابن خلدون لأن يحيا حياة جديدة ومتجددة، وبعبارة أخرى "ما تبقى منها"، أي العناصر التي تنتمي إلى الخلدونية بهذا المعنى والتي ما زالت تحتفظ -بشكل أو آخر- بإمكانية الحياة معنا، نحن أبناء الوطن العربي في عصرنا الراهن. ‏ هذا التحديد الأولي للخلدونية لا يمكن قبوله إلا إذا تم التسليم سلفاً بأننا ما زلنا نعيش بشكل أو آخر نفس الإشكالية التي فكر فيها وتحرك داخلها عبدالرحمن بن خلدون (732هـ/808هـ - 1332م/1406م). بالفعل، فنحن ننطلق هنا من أن إشكالية ابن خلدون -وقد أجملنا القول فيها في المقالات السابقة- مازالت معاصرة لنا، أي قابلة لأن تندمج في إشكاليتنا الراهنة وقابلة لأن تتفاعل معها وتساهم في توضيحها وتوفير الشروط الضرورية لتجاوزها. ولعل الذي جعل إشكالية ابن خلدون، هذه، قابلة لأن تندمج في إشكاليتنا الراهنة، نحن أبناء العالم العربي المعاصر -دون غيره من مؤرخينا السابقين- هو صدوره في عمله التاريخي عن دوافع تختلف اختلافاً جذرياً عن تلك التي وجهت غيره إلى التأليف التاريخي. وهكذا، فبينما نجد كبار المؤرخين في الإسلام، قد اتجهوا إلى التاريخ بدوافع وأغراض دينية أو سياسية أو لمجرد التسلية أو من أجل إبراز دروس وعبر معينة، الشيء الذي يعني أن اهتمامهم بالتاريخ كان من أجل شيء آخر (لا من أجل التاريخ ذاته) نجد ابن خلدون يصدر، بالعكس من ذلك، عن وعي تاريخي حاد، جعل اهتمامه بالتاريخ لذات التاريخ لا لشيء آخر. ذلك هو معنى تمييزه في فن التاريخ، بين "ظاهر لا يزيد على أخبار عن الأيام والدول والسوابق من القرون الأول، تنمو فيها الأقوال وتضرب فيها الأمثال"، وبين "باطن، هو في حقيقته نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومباديها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق". ‏ولم يكن هذا الوعي التاريخي الذي هيمن على فكر ابن خلدون وليد تفلسف أو استغراق في التفكير، بل كان نتيجة ممارسة شخصية وظروف موضوعية. لا، بل نتيجة اندماج الذاتي في الموضوعي في تجربته اندماجاً جعل كلًا منهما يفسر الآخر ويكمله، مما أعطى للوعي التاريخي لديه طابعاً مأساوياً واضحاً: ‏ لقد انخرط ابن خلدون، بقوة وإلحاح، في أحداث عصره فعاش لمدة 23 سنة تجربة سياسية غنية بالمفاجآت والتقلبات‏، بالنجاحات والإخفاقات، تنقل خلالها بين قصور الأمراء والملوك في كل من المغرب والأندلس والجزائر طالباً للحظوة والجاه حيناً، وفاراً من السجن والملاحقات حيناً آخر، إلى أن انتهى به المطاف آخر776هـ إلى قلعة ابن سلامة بالجزائر حيث التجأ معتزلاً السياسة ومطامحها وأهوالها منصرفاً إلى التاريخ يستفتيه الدروس والعبر فأفتاه "المقدمة"، التي اهتدى إليها -كما يقول- "على ذلك النحو الغريب، في تلك الخلوة فسالت... فيها شآبيب الكلام والمعاني على الفكر حتى امتحضت زبدتها وتآلفت نتائجها". غير أ‏ن تجربة ابن خلدون الشخصية القلقة المضطربة الفاشلة لم تكن سوى صورة مصغرة من تجربة عصره كله: لقد عاش صاحب "المقدمة" في وقت كان كل شيء فيه يشير إلى أن شمس الحضارة العربية الإسلامية آخذة في الأفول، فالقرن الثامن الهجري كان بحق قرن التراجعات والكوارث في العالم الإسلامي: فمن هجمات التتر شرقاً إلى تقلص حكم العرب في الأندلس غرباً، إلى ضعف الأسر الحاكمة وتنافسها ودخولها مع بعضها بعضاً في مؤامرات وحروب لا غاية لها ولا نهاية، إلى الطاعون الجارف الذي خلف الخراب والدمار، إلى التزمت الفكري وانتشار الخرافة واللامعقول... ٍ لقد امتزجت في وعي ابن خلدون تجربته السياسية التي انتهت بالفشل والتشرد وتجربة الحضارة العربية الإسلامية التي بلغت في عصره درجة من التدهور تدعو إلى اليأس فجعل يقرأ هذه بواسطة تلك، ويقرأ تلك بواسطة هذه، فتحول الذاتي في وعيه إلى موضوعي، والموضوعي إلى ذاتي. وعندما أراد التعبير عن هذا الوعي اتجه ليس إلى كتابة مذكراته، بل إلى إعادة كتابة التاريخ على ضوء تجربته الشخصية وواقع عصره معاً: لقد أدرك ابن خلدون أن تجربته الشخصية لم تكن سوى جزء من كل، وأن الفشل الذي تعرض له لا يخصه وحده بل يخص العصر كله، وأن المشكلة ليست في الحقيقة مشكلة تشرده أو مقتل صديقه أمير بجاية أو نكبة أسرته، بل هي مشكلة ذلك الصراع المرير من أجل الحكم، وتلك الممالك التي لم تكن تقوم إلا لتسقط وتنهار. وعندما تتعدى المشاكل نطاق الفرد وتتجاوز حدوده وإمكانياته، أي عندما يطرح الحاضر نفسه كمشكلة تأخذ بجماع وعي الفرد يكون الاتجاه إلى الماضي واللجوء إلى التاريخ أمراً طبيعياً. ومن هنا كان اهتمام ابن خلدون بالتاريخ وهو اهتمام لم يكن من أجل توثيق مسائل دينية، ولا من أجل إرضاء أمير، ولا طلباً للتسلية أو لمجرد الاطلاع والمعرفة، بل من أجل استنطاق حوادث الماضي واستفتاء مجرياتها والاستعانة بذلك في فهم الحاضر الذي تُشكل تجربته الشخصية جزءاً لا ‏يتجزأ منه. لقد اتجه ابن خلدون إلى "‏الموضوعي"، إلى التاريخ، يبحث فيه عن تفسير لـ"الذاتي"، أي للحاضر الذي يتألف في وجدانه من تجربته الشخصية وتجربة عصره، وها هو هذا الموضوعي نفسه يحيله على ذلك الذاتي، ولكن ليس بوصفه "تجربة شخصية" بل بوصفه ممارسة سياسية وخبرة اجتماعية ومعرفة تجريبية. لقد وعى ابن خلدون ذلك الحوار الجدلي القائم أبداً بين الماضي والحاضر: إن مشاكل الحاضر تدفعنا إلى الماضي، إلى التاريخ، ولكن هذا الأخير لا يمدنا بالحلول إلا من خلال مشاكل يطرحها علينا فتردنا بدورها إلى الحاضر لنعيد قراءته بشكل يجعلنا نرى فيه ما لم نكن نراه من قبل. إنه بهذا الحوار الذي جرى في وعي ابن خلدون بين الماضي والحاضر اكتشف صاحب المقدمة "وحدة التاريخ"، فتراءى له "الماضي أشبه بالآتي (المستقبل)، من الماء بالماء". لقد ذابت مشكلته الشخصية في مشكلة العصر، وها هي مشكلة العصر تنصهر هي ومشاكل الماضي ومشاكل المستقبل أيضاً -في مشكلة واحدة. إنه التحول من الجزئي إلى الكلى، من الذاتي إلى الموضوعي، من الطموح الإيديولوجي إلى المعرفة المجردة، المعرفة العلمية. لقد كان طموحه من قبل طموحاً سياسياً، ولما فشل في تحقيقه بحث عن أسباب هذا الفشل في معطيات عصره ومعطيات التاريخ الذي ينتمي إليه -تاريخ المغرب العربي- فتبين له أن الفشل لا يهمه وحده بل يهم العصر كله. ومن هنا تحول ذلك الطموح السياسي المصدوم إلى طموح علمي متحمس لم يتملك معه من الإعلان بأنه بصدد اكتشاف علم جديد سماه "علم العمران". وادعاء اكتشاف علم جديد في القرون الوسطى، سواء في العالم الإسلامي أم في العالم المسيحي، أقلُّ ما يمكن أن يوصف به صاحبه أنه "أخرق مجنون"، فالعلم كان قد اكتمل، ولم يعد هناك مجال للاجتهاد في داخله، أما ادعاء الاجتهاد خارجه فذلك هو الكفران المبين. بالفعل لقد بقي ابن خلدون وحده خارج سرب المؤرخين، ليحلق فوق رؤوسنا يقرأ علينا كتابه "المقدمة"... لتنبيه الغافلين. وبعد، فقد حاولنا في الفقرات الماضية تطبيق الخطوة الأولى من منهجنا في الدراسات التراثية، أعني، خطوة "الفصل"، أو "جعل المقروء معاصراً لنفسه" وذلك من خلال إبراز الترابط بين الذاتي والموضوعي فيما نسميه هنا بـ"الخلدونية"، ويبقى علينا أن نعمل على تطبيق الخطوة الثانية من المنهج نفسه، خطوة "الوصل"، أي جعل المقروء "معاصراً لنا"، نقصد النظر إلى الخلدونية من زاوية أنها تتحدث إلينا عن مسكوت عنه يفرض نفسه علينا ويلح علينا للخروج من غفلة دامت أكثر من اللازم.