خلال الأيام الأولى للأزمة المالية الراهنة، أشار الأوروبيون وغيرهم من شعوبالعالم، بأصابع الاتهام،إلى واشنطن وول ستريت، باعتبارهما المسببين الرئيسيين للكوارث المالية التي تتالت نتيجة لسياساتهما الخرقاء. لكن الأزمة تظل أكثر تعقيداً من أن تتحمل المسؤولية عنها الولايات المتحدة ومؤسساتها المالية وحدها. وبسبب التعقيد والتشابك الذي يتسم به الاتصال الفوري والمستمر بين البنوك والشركات العالمية وأرصدة المغامرة والأسواق المالية الدولية، فإنه يصعب رصدها أو وضع خريطة لها. أكثر من ذلك أننا لا نزال عرضة لتضليل عدد من الخبراء الماليين والاقتصاديين الذين يصرون على مقارنة الأزمة المالية الحالية بالأزمات الشبيهة التي سبقتها في الماضي، لا سيما الكساد العظيم الذي ضرب بلادنا والعالم كله في عقد ثلاثينيات القرن الماضي. ولنضرب لهؤلاء مثلاً بمحلل وول ستريت الشهير، ديفيد إم. سميك، الذي أورد في مقدمة آخر مؤلفاته المنشورة هذه العبارة المشددة: ليس من شيء جديد البتة في هذه الأزمة السياسية الاقتصادية المالية التي تمر بها بلادنا هذين اليومين. وكما سبقت الإشارة فقد تعجل "الخبراء" الاقتصاديون والمحللون الماليون في تشبيه ما يحدث اليوم بما جرى في عام 1929، حيث أدى الانهيار المدوي لأسواق البورصة إلى دخول أميركا والاقتصاد العالمي بأسره في موجة كساد عظيم مدمر وطويل الأمد. وبفعل ما يروج له الخبراء والمحللون، فإن من الطبيعي أن تسود صفحات الصحف وتطغى على التقارير والنشرات المرئية والمسموعة عناوين من شاكلة: إنها عودة كاملة إلى عام 1929. والحق أن الإخفاق في فهم المدى الثوري الذي بلغه الاقتصاد الأميركي اليوم، كفيل بنفي الكفاءة والأهلية عن أي ممن يسمون بالخبراء والمحللين الماليين، ويطعن في كل ما يذهبون إليه من تحليلات تغفل الطبيعة الثورية للاقتصاد الأميركي. فالجانب المالي لا يمثل سوى جزء واحد فحسب من اقتصاد أي دولة ما، وخلال السنوات الأخيرة شهد القطاع المالي انفجاراً من حيث الحجم والسعة، فاق تقريباً أي توسع شهدته القطاعات الاقتصادية الأخرى. ومن هنا استمد القطاع المالي أهميته، ما استدعى الاهتمام بإعادة تنظيمه ومراجعة أدائه. وللسبب نفسه فإنه ينبغي لأي استجابة جادة للأزمة المالية الاقتصادية الحالية، أن تضع في الاعتبار الطابع الثوري العام لاقتصادات القرن الحادي والعشرين. ويمكن تلخيص التغيرات الثورية التي طرأت على الاقتصاد العالمي في ما يلي: أولاً: تزايد دور المكونات الاقتصادية غير الملموسة في الاقتصاد العالمي. والقصد من هذا أن اقتصاد أي أمة من الأمم يتألف من عناصر ملموسة وأخرى غير ذلك. ومع تجاوز الاقتصادات العالمية -لا سيما الاقتصاد الأميركي- لعصر الثورة الصناعية، ودخوله أكثر فأكثر إلى مرحلة إنتاج الثروة القائم على المعرفة، فقد حدث توسع هائل في المكونات الاقتصادية غير الملموسة وازدادت أهميتها أكثر من ذي قبل. ثانياً: الجهل بالمعرفة، ويشير هذا المفهوم إلى تزايد اعتماد الاقتصادات المتطورة على مدخلات المعلومات التي يصعب تحديدها أو قياسها. ولهذا السبب تظل الكثير من المؤشرات والمعلومات التي لا يزال يعتمد عليها الاقتصاديون والمحللون الماليون، لا يعتمد عليها أو مضللة عند تطبيقها على الاقتصاد العالمي، الذي يزداد اعتماده على المعرفة. ثالثاً: النشاط الاقتصادي العابر للحدود. فلم يسبق للاقتصادات العالمية أن كانت يوماً بهذا التشابك المتعدد الوجوه مثلما هي الآن. ولا يقتصر هذا التشابك على الجانب المالي وحده، إنما يشمل الجوانب السياسية والاجتماعية والثقافية أيضاً، بين الكثير من دول العالم. والمعروف عن "جامعة وارويك" البريطانية، أنها ترصد سنوياً أشكال التشابك هـذه. وعلى رغم علاقتها بالأزمة المالية الاقتصادية الراهنة، فإن الكثير من الاقتصاديين والمحللين الماليين يجهلونها ويغضون الطرف عنها، باعتبارها أمراً يخص علماء السياسة والاجتماع دون غيرهم. وتعد جامعة وارويك مؤشراً سنوياً للعولمة تعطى بموجبه درجات لكل دولة من دول العالم على حدة. وكلما ارتفعت درجات دولة ما في ذلك المؤشر، كلما كان يعني ذلك تزايد تداخل أنشطتها مع الدول الأخرى في شتى المستويات. ففي عام 1984، لم تزد نسبة الكثافة السكانية للدول الحاصلة على معدل 0.400 من مؤشر "وارويك" عن 3 في المائة فحسب، وهي الدول التي تمثل خمسة من الاقتصادات الكبرى. وبحلول عام 2004، اجتازت 35 دولة ذلك الحد، وهي دول تضم إجمالياً سكانياً يقدر بنحو 3.6 مليار نسمة، أي حوالي 57 في المائة من الكثافة السكانية العالمية. من الطبيعي إذاً أن يؤدي هذا التداخل في العلاقات والأنشطة بين الدول إلى تبدل متسارع ودينامي في طبيعة هذه العلاقات وتشابكها على نحو يصعب قياسه أو الإمساك به. رابعاً: تزايد تعقيد النشاط المالي الاقتصادي، ففي الدول المتقدمة بالذات، يكاد التعقيد يسجل أرقاماً قياسية غير مسبوقة الآن في أي مجال من مجالات الحياة، ليس في الجانب المالي الاقتصادي وحده، إنما كذلك في العلوم والتكنولوجيا والقانون والتسويق والبنى التنظيمية والتجارة، بل لنقل الحياة اليومية كلها. والنتيجة الطبيعية لكل هذا، تزايد اعتماد المجتمعات والدول على الخبراء، بمن فيهم المصرفيون والوسطاء الماليون، وعلماء الرياضيات بالطبع. وما أن تكشفت فضيحة انهيار القطاع العقاري التي فتحت الطريق واسعاً أمام توالي الأزمة المالية الاقتصادية التي نعيشها اليوم، حتى سارع الجمهور الأميركي الحانق على ما يحدث له، إلى وضع اللوم على البنوك والوسطاء الماليين الذين ورطوا عدداً كبيراً من مالكي البيوت في عقود رهن عقاري ليست لهم قدرة مالية حقيقية تمكنهم من الوفاء بمستحقاتها وأقساطها الشهرية. وبسبب تعقيد نصوص وشروط العقود التي وقع عليها حتى أكثر المشترين والمالكين ذكاءً، فقد شق عليهم فهمها وتأويل شروطها القانونية. وما أن بدأت تتكشف هذه الحقائق لعامة الجمهور الأميركي، حتى سارعت هذه الأخيرة، مدفوعة بمشاعر غضب مفهومة، على إنحاء اللائمة كلها على جشع المؤسسات المالية وتهافتها على تكوين الثروات الطائلة السريعة. وبرغم إمكانية فهم دوافع هذا الشعور ومشروعيته، يظل تبسيطياً وساذجاً في تفسيره لما حدث بالضبط. فمما لا ريب فيه أن للجشع دوراً لا يستهان به في ما حدث، إلا أن البروفيسور "مايكل دي. إنترلجيتر"، أستاذ الاقتصاد والعلوم السياسية والسياسات العامة بجامعة كاليفورنيا، يشير إلى واقع أكثر تعقيداً في تفسيره لما حدث. وتضمنت إشارته هذه عدداً كبيراً من العوامل -بما فيها الجشع- لعبت دوراً كبيراً في تسبيب الكارثة المالية الحالية. نكتفي هنا بالإشارة إلى عدد منها فحسب: أولها: النمو غير المنظم لصناديق المخاطرة المالية في البورصات. ثانيها: تهاون الوكالات الائتمانية والمدققين والمحاسبين الماليين في منح درجات تقدير عالية جداً لأي مستندات وأوراق مالية تعرض عليهم، دون مراجعة دقيقة لتلك المستندات والأوراق. ثالثها: نمو المنتجات الجانبية وغيرها من الأدوات المالية شديدة التعقيد إلى حد يجعل فهمها عسيراً على معظم العاملين في المجال المالي الاستثماري. والحق أنه يجب تعليق قائمة البروفيسور "إنترلجيتر" هذه في أي مكتب مالي أو هيئة حكومية لها صلة بالمال والاستثمار، نظراً لأهميتها الفائقة، ليس بسبب صحة ما تشير إليه من عوامل فحسب، ولكن لكونها تشدد على تزايد تعقيد النشاط المالي الاستثماري، وهو عامل طالما تجاهله الاقتصاديون التقليديون. خامساً وأخيراً: اختلال تزامن النشاط الاقتصادي. وهذا عامل يكاد يتجاهله جميع الخبراء التقليديين، على رغم تزايد تسارع النشاطين الاجتماعي والاقتصادي في مجتمعات الدول المتطورة على وجه الخصوص، بوتائر غير مسبوقة حالياً. وإلى ذلك العامل تضاف ظاهرة لا تزامن النشاط الاقتصادي داخل المجتمع أو الدولة الواحدة. فكما نلحظ اليوم، تزداد سرعة أداء القطاعات الاقتصادية عموماً، إلا إن أياً منها لم تبلغ سرعته سرعة أداء القطاع المالي. وبسبب حدة المنافسة بين الشركات والمؤسسات والأسواق المالية، نراها تتسابق جميعاً في زيادة سرعة إنجاز معاملاتها المالية. ولكن النتيجة الرئيسية المترتبة عن هذا التسارع في القطاع المالي بالذات، هو عدم تزامن النشاط الاقتصادي عموماً. فبينما يعمل القطاع الخاص بسرعة البرق أو الضوء مستعيناً بأحدث تكنولوجيا الكمبيوتر والإنترنت وغيرهما من وسائل الاتصال الفوري، يلاحظ بطء أداء القطاع الحكومي، لا سيما أجهزته ووكالاته التنظيمية. وبسبب هذا الفارق الملحوظ في سرعات أداء القطاعات الاقتصادية، فإنه تصعب الاستجابة الناجعة للأزمة الحالية من دون الأخذ بأهمية هذا الخلل في وضع سياسات الإنقاذ الطارئ. على أن الأهم من ذلك، أن تأخذ هذه الاستجابة بحقيقة أنه لم يعد ممكناً لوصفات معالجتنا للأزمات المالية الاقتصادية السابقة، أن تداوي علل أزمتنا الحالية. ألفين توفلر كاتب أميركي متخصص في المستقبليات ينشر بترتيب خاص مع "تريبيون ميديا سيرفيز"