الشباب العربي والعزوف عن السياسة
ثمة عزوف كبير وملفت ومقلق عن السياسة في أوساط الشرائح الشبابية في العالم العربي. وليست هناك حاجة للاعتماد على إحصاءات ودراسات علمية للخلوص إلى نتيجة مفادها انتشار الإعراض عن التسيس بشكل عام، وفي أوساط الشباب بشكل خاص. وهذا ملفت لأنه يحدث في بلدان تعج بالمعضلات السياسية والاجتماعية والثقافية التي تستلزم انخراطاً مضاعفاً في السياسة وتوسيعاً لنطاق الاهتمام بالشأن العام لمواجهة تلك المعضلات. وهو مقلق لأنه من دون وجود فاعلية شبابية في الحياة السياسية، في البلدان المستقرة والناجزة ناهيك عن البلدان القلقة والحبلى بالمشكلات، فإن مستقبلات تلك البلدان لن تتصف بالإشراق.
بعض أسباب العزوف عن السياسة عموماً، وتفشي ذلك العزوف في أوساط الشباب، يتسم بالعالمية ويتواجد في معظم مناطق العالم. تواري الأيديولوجيات الكبرى وفقدان "المعنى" أحبط تيارات شبابية واسعة النطاق، ولم تعد تلك الفاعلية مرئية سواء في أوساط التجمعات الجامعية أو غيرها. كما أن انتشار وسائل الاتصال العولمي ساهم من جهة في زيادة وتعميق المعرفة المتبادلة بين البشر، وشبابهم، لكنه أيضاً ساهم في إحباط العمل الجماعي الفاعل من جهة أخرى: أصبح الاطلاع والمتابعة (الإنترنتية) بديلين عن الفعل الحقيقي والعملي على الأرض. وهناك أسباب عالمية مشتركة أخرى عديدة ليس هذا وارد مناقشتها تفادياً للاستطراد. بيد أن ما يلح أكثر هنا هو التأمل في الأسباب الخاصة بالحالة العربية المقلقة حيث السياسة تنفر القادمين الجدد إليها وتدفعهم لتغيير مساراتهم.
السبب الأول بطبيعة الحال هو المناخ القمعي العام الذي تعيشه معظم البلدان العربية والذي يترتب عليه تقديم تضحيات أحياناً تكون كبيرة فعلاً كثمن للانخراط في العمل السياسي. والاشتغال في السياسة في غالبية البلدان العربية معناه توقع حدوث خسارات كثيرة على المستوى الفردي، وتوقع مستوى من التضحية قد لا يتناسب مع ما يمكن إنجازه على أرض الواقع. في أحوال عادية لا تتطلب تضحيات كبيرة وغير متناسبة مع الإنجازات المتوقعة يكون العمل السياسي جسراً لتحقيق الطموح الشخصي، وليس فقط اندفاعة جذرها الرغبة في التغيير. وهذا يعني أن التسيس قد يفتح للمنخرطين في السياسة آفاقاً لم تكن موجودة من قبل، ويغريهم بتعدد المصالح ودمج ما هو خاص فيها بما هو عام. أما السياسة في البلدان العربية فقد تكون الطريق إلى فقدان الوظيفة، والمطاردة في الحياة، والتضييق في وسائل العيش، والنبذ من قبل النظام الحاكم، وقد تنتهي بالسجن.
السبب الثاني وراء العزوف عن السياسة، شبابياً وبشكل عام، هو أن أرض الواقع قاحلة وغير مغرية، وتغيير ما هو قائم عليها لا يتبدى مُتاحاً في الأفق المنظور. لذلك يتقدم الإحباط واليأس دافعاً الغالبية الكاسحة من الناس بعيداً عن التورط في السياسة، تاركة إياها للنخب الحاكمة، أو للنخب المعارضة المؤدلجة وخاصة الإسلامويين كما سيرد لاحقاً. وانسداد آفاق واحتمالات التغيير ينفر الشرائح التي قد تكون لديها الرغبة في العمل السياسي ولو بالحدود الدنيا. والأنظمة القائمة وعلى مدار العقود الماضية تمكنت من سد الأفق بشكل شبه تام في معظم البلدان العربية بحيث صار التفكير بمجرد تغيير الوضع القائم مصطدماً بواحدة من نتيجتين: الأولى هي استحالة إحداث هذا التغيير، والثانية أن التغيير إن حدث قد يقود إلى أوضاع أسوأ من الأوضاع السيئة القائمة!
السبب الثالث الذي يمكن التأمل فيه وراء عزوف الشرائح الشبابية عن السياسة هو شعارات الحد الأقصى عند كثير من الأحزاب المعارضة التي تريد تغيير الأوضاع القائمة. فالعديد من الأحزاب العربية، بشتى توجهاتها الأيديولوجية والفكرية، يطرح برامج وشعارات تعلن من البداية أنها تريد تغيير الأوضاع القائمة وشكل الأنظمة وأحياناً قلب الأمور جذرياً. نظرياً قد تمتلك هذه البرامج والشعارات مشروعية، ليس من ناحية مضمون ما تطرح، بل من زاوية وجوب تمتعها بالحرية في طرح ما تشاء طالما كان ذلك بعيداً عن العنف واستخدام القوة. لكن من ناحية عملية فإن شعارات التغيير القصوى والبرامج الجذرية تخيف بطبيعة الحال الأنظمة المقصودة، وتضاعف من السياسات القمعية وردود الفعل المتوترة. وهذا كله يبعد تلقائياً وآلياً الشرائح المحتمل أنضواؤها في هذه الأحزاب. وما يحتاجه كثير من الأحزاب العربية هو إعادة النظر في الشعارات والبرامج التي تطرحها بحيث تجعلها أقل تخويفاً للأنظمة القائمة وللناس أيضاً، وحتى تجسر الفجوة بينها وبين الشرائح الأعرض من الناس.
وهنالك سبب آخر يمكن التأمل فيه هنا هو سيادة الشعار الإسلاموي والحركات الإسلاموية في فضاء التسيس في البلدان العربية. وهذا له عدة مظاهر ذات صلة هنا، كما أنه يقود إلى عدة نتائج. المظهر الأول هو أن هذه الحركات تكاد تكون الاستثناء الوحيد، والمدهش، لظاهرة عزوف الشباب العربي عن التسيس. والمظهر الثاني هو أن التيار الرئيسي لهذه الحركات، المنخرط في العمل السياسي، يطبق بوعي أو من دون وعي نظرية تقديم الحد الأدنى من التضحيات. ومعنى ذلك أن العناصر الشبابية المنضمة إلىها لا تقدم تضحيات قصوى، بل تستطيع أن تمارس حياتها الاجتماعية والمهنية بشكل شبه عادي من دون أن تخسر خسارات كبرى ودائمة. وهناك طبعاً معيقات أو خسائر موسمية، وهناك ضغوط على القيادات العليا في بعض البلدان، لكن بشكل عام فإن ما تقوم به الشرائح الأوسع من تضحيات يقع في إطار المقبول والمقدور عليه.
أما المظهر الأكثر إثارة للقلق في مسألة التسيس الشبابي الإسلاموي فيتأتى من زاوية الإيمان بامتلاك الحقيقة واعتلاء موقع أخلاقي وقيمي وديني يُنظر منه إلى الشرائح الشبابية الأخرى على أنها منحرفة عن الطريق القويم، وسائمة لا تعرف هدفاً لها، وتلهث وراء مصالحها الدنيوية. وينعكس هذا "التموضع" على شرائح الشباب غير المتدين حيث يشعر هؤلاء طوال الوقت بأنهم مُدانون شعورياً ودينياً إلى أجل غير مسمى، وهذا الشعور بـ"الدونية الدينية والسياسية" يدفعهم إلى الابتعاد أكثر عن السياسة، وعدم منافسة الإسلاميين، والبقاء في مربعات الاهتمامات الصغيرة، لكن التي يشعر أصحابها بأن التقصير الديني يعتريهم طوال الوقت.
وخلاصة المشهد الشبابي العربي، في ما خص الاهتمام بالسياسة، هو انشطار رأسي بين شريحة إسلاموية نشطة ومسيسة، وشرائح غير متدينة وغير مسيسة، وهذا يؤشر إلى مسارات التوجهات المستقبلية في السياسة والاجتماع وأشياء أخرى كثيرة.