في الوقت الراهن، تناشد صناعة السيارات في الولايات المتحدة وأوروبا والصين حكوماتها التدخل لإنقاذها من خلال ضخ مقادير هائلة من الأموال العامة، وهي تحذر تلك الحكومات من أن التأخر في تقديم تلك المساعدات سيعرضها حتماً لخطر الانهيار. وفي حين يحبذ البعض أسلوب التدخل الحكومي من خلال تقديم حزم إنقاذ خوفاً من وقوع كارثة اقتصادية، فإن البعض الآخر يفضل عدم تدخل الحكومات، وترك تلك الشركات تواجه مصيرها في السوق المفتوحة، فإما أن تطفو وإما أن تغرق. وهناك طريقة ثالثة لمقاربة المشكلة، بيد أنها تتطلب إجراء تغييرات جذرية في الطريقة التي يتم بها النظر إلى طبيعة، ومغزى ما يحدث في الوقت الراهن، وما الذي يتوجب علينا عمله بشأنه. من المعروف أن اختراع آلة الاحتراق الداخلي، وإنشاء البنية التحتية لشبكة الطرق السريعة، قد آذنا ببدء عصر النفط، والثورة الصناعية الثانية في القرن العشرين، تماماً مثلما كان اختراع ماكينة البخار، والقاطرة البخارية، وإنشاء البنية التحتية للسكك الحديدية، إيذاناً ببداية عصر الفحم والثورة الصناعية الأولى في القرن التاسع عشر. والثورة الصناعية الثانية، تدخل مرحلة الأفول في الوقت الراهن، وخصوصاً بعد الزيادات الكبيرة في أسعار النفط خلال السنوات الأخيرة، والتي كانت مؤشراً على اقتراب النهاية ليس بالنسبة للسيارات الشرهة في استهلاك البترول فحسب، وإنما بالنسبة لمرحلة ماكينة الاحتراق الداخلي بأكملها. فالطلب المتزايد على النفط، كان يصطدم دوماً بنقص المعروض من تلك المادة، نتيجة للتناقص المستمر في المخزون الموجود بباطن الأرض. وكانت نتيجة ذلك دائماً هي ارتفاعات حادة في الأسعار، كانت تقود بدورها إلى دورات تضخمية تساهم في تقليص الاستهلاك العالمي، وخصوصاً عندما وصل سعر النفط إلى 100 دولار للبرميل الواحد، أي عندما يتم الارتطام بما يعرف بالجدار الواقي لـ"ذروة العولمة". فعند تلك النقطة تحديداً، تتعطل ماكينة الاقتصاد، وينكمش الاقتصاد ذاته، وتنخفض أسعار الطاقة، نتيجة لقلة استهلاك النفط. وتعتبر صناعة السيارات، هي جهاز الإنذار المبكر، الذي ينبهنا إلى أننا بصدد الاقتراب من مرحلة أفول الثورة الصناعية الثانية. وما الذي يتعين علينا عمله إذن في اللحظة الراهنة؟ نحن بحاجة إلى اقتناص هذه اللحظة، من أجل إعادة صياغة النقاش العالمي حول صناعة السيارات، ونقل بؤرته من مجال عمليات الإنقاذ التي تقوم بها الحكومات لنظام ماكينة الاحتراق الداخلي القائم على استهلاك البترول، إلى مجال الأبحاث، والتطوير، واستخدام السيارات الكهربائية التي تعمل بالبطاريات وخلايا الوقود الهيدروجيني، والطاقة القابلة للتجدد. والتحول في نظامنا الخاص بالطاقة، وصناعة السيارات، يمثل نقطة الولوج للثورة الصناعية الثالثة، واقتصاد ما بعد الكربون، في النصف الأول من القرن الحادي والعشرين. لكي نجعل هذا التحول أمراً ممكناً، علينا أولاً أن نفهم أن إحداث ثورة في منظومة النقل، كان أمراً يقترن دوماً بالثورات في مجال البنية التحتية: فثورة ماكينة البخار -على سبيل المثال- تطلبت إحداث تغيرات هائلة في البنية التحتية، والتحول من نظام النقل النهري، الذي اعتمدت عليه البشرية قروناً متتالية إلى نظام النقل بالسكك الحديدية، وتخصيص الأراضي العامة من أجل تطوير بلدات ومدن جديدة على امتداد تلك الخطوط، وهو ما حدث في جميع البلدان التي تم فيها مد خطوط للسكك الحديدية بأي مكان في العالم. على نفس المنوال، تطلب اختراع آلة الاحتراق الداخلي بناء شبكات الطرق، ومد خطوط أنابيب النفط، وبناء مراكز تجارية وسكنية على امتداد شبكة الطرق السريعة التي تربط بين المدن المختلفة داخل الدولة الواحدة. والانتقال من آلة الاحتراق الداخلي إلى السيارات التي تعمل بطاقة البطاريات وخلايا الوقود الهيدروجينية يتطلب بدوره التزاماً مماثلاً ببناء البنية الأساسية للثورة الصناعية الثالثة، على أن يتم البدء بتحويل شبكات الطاقة الكهربائية، وخطوط توصيلها في كل دولة، من المنظومات المعروفة بـمنظومات "القيادة والسيطرة الميكانيكية على شبكة الخدمات المركزية"، إلى "منظومات الإدارة الرقمية الموزعة". ويشار -ضمن هذا السياق- إلى أنه قد تم عقد اتفاقيات شراكة بين كبريات شركات السيارات في العالم، وشركات المرافق العامة في اليابان، وألمانيا، وفرنسا، على وجه التحديد، من أجل تركيب الملايين من وحدات شحن الطاقة على امتداد الطرق السريعة، ومواقف السيارات، والجراجات، وفي المناطق التجارية والسكنية، للسماح للسيارات بشحن البطاريات التي ستعمل عليها. في الوقت نفسه، تقوم كبريات شركات الخدمات والمرافق بتحويل شبكات الكهرباء التقليدية باستخدام التقنيات ذاتها التي قادت إلى ثورة الإنترنت، وذلك من أجل إنشاء ما يعرف بشبكات الطاقة الذكية التي ستؤدي إلى تثوير الطريقة التي يتم بها إنتاج وتوصيل الطاقة الكهربائية. في الوقت نفسه، سيتم تحويل الملايين من المنازل، والمكاتب، والمصانع القائمة، أو بناء ملايين جديدة منها، لتخدم كـ"محطات طاقة إيجابية" أي كوحدات قادرة على اصطياد الطاقة المحلية المتجددة، سواء طاقة الرياح والشمس والطاقة الجيو- حرارية، والكتلة الحيوية، وأمواج المحيطات، لتوليد الطاقة اللازمة لتشغيل المباني مع اقتسام الطاقة الفائضة مع الوحدات الأخرى، من خلال شبكات داخلية ذكية، بنفس الطريقة التي يتم بها إنتاج المعلومات في الوقت الراهن واقتسامها مع الغير عبر شبكة الإنترنت. والانتقال إلى البنية التحتية للثورة الصناعية الثالثة، سيتطلب التزامات استثمارية ومالية ضخمة من جانب القطاعين العام والخاص، كما ستكون هناك حاجة إلى إعادة تجهيز صناعة السيارات، وإعادة تصميم شبكات الطاقة، وتحويل الملايين من المباني التجارية والسكنية القائمة إلى "محطات طاقة إيجابية". ووضع البنية التحتية الجديدة، سيتطلب استثمارات بمئات مليارات الدولارات، وهو ما يجعل البعض يعتقدون أنه لن يكون بمقدور العديد من الدول تنفيذ تلك المشروعات والسؤال هنا هو: هل هناك طريقة أخرى لضخ الدماء مرة أخرى في شرايين الاقتصاد العالمي الحالي المثقل بالديون، والذي يعتمد على نظام طاقة غير قادر على الوفاء بالمطلوب منه؟. سوف تجلب الثورة الصناعية الثالثة معها عهداً جديداً من رأس المال الموزع، والذي تتحول فيه الملايين من المشروعات القائمة والجديدة، ويتحول فيه الملايين من ملاك العقارات الحاليين والمتوقعين إلى فاعلين أساسيين في مجال الطاقة على النحو الذي شرحناه آنفاً. وخلال هذه العملية، سنكون قادرين على خلق ملايين الوظائف الخضراء، وإطلاق ثورة تقنية جديدة، وتحقيق زيادة هائلة في القدرة الإنتاجية، وتخفيف آثار عملية التغير المناخي التي تهدد كوكب الأرض والبشرية جميعها. وبوضع صناعة السيارات في قلب عملية تحويل البنية التحتية من الثورة الصناعية الثانية إلى الثورة الصناعية الثالثة، سنتمكن من البدء في تغيير محور النقاش العام الذي يتركز الآن على إنقاذ الشركات العامة، وتحويله إلى التفكير في الطريقة المثلى التي يمكن لنا بها الاستثمار في خطة اقتصادية جديدة، تعود بالنفع على العالم بأسره.