الأزمة المالية... ونهاية الإمبراطورية الأميركية
رأى الكثير من المحللين والمعلقين على الأزمة المالية التي ضربت بورصات العالم وأسواقه كلها، حتمية اضمحلال الهيمنة الأميركية. ويقول هؤلاء إن ميزان القوى قد بدأ في التغير نتيجة لصعود الصين وعودة روسيا إلى المسرح الدولي والاندماج السياسي للاتحاد الأوروبي، فضلاً عن تنامي النفوذ الاقتصادي لكل من الهند والبرازيل. وفي إشارة منه إلى خطة إنقاذ المؤسسات المالية الأميركية البالغة قيمتها 700 مليار دولار، كتب بول كريج روبرتس، مساعد وزير الخزانة سابقاً في إدارة ريجان ما يلي: "بالنظر إلى خواء الخزانة الأميركية حالياً فإنه سيتعين على واشنطن استدانة ميزانية خطة الإنقاذ هذه من الممولين الأجانب، مع ملاحظة أنه ما من أحد استشار الصين حتى الآن، على رغم كونها تعتبر أحد عملاء البنوك الأميركية الرئيسيين". أما المؤرخ الأميركي هوارد زين، فقد نشر مقالاً جريئاً في "الجارديان" البريطانية، قال فيه إن الأزمة المالية الحالية تعد محطة عبور فحسب نحو انهيار ونهاية الإمبراطورية الأميركية. وربما تكون هذه الأزمة مؤشراً على اندثار آخر نموذج أنجلو-أميركي لتحرر الاقتصاد من تدخل الحكومة ونظمها، غير أنه لن يكون مؤشراً على نهاية القوة الأميركية نفسها، لأسباب عديدة نوجز الحديث عنها فيما يلي.
أولاً: لم تستشر الصين وغيرها من الممولين الرئيسيين لأميركا في خطة الإنقاذ المالي الأميركي، بسبب عدم مطالبة الدول المعنية باستشارتها. وخلافاً لسياسات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي اللذين يفرضان شروطهما على الدول التي يمولانها، يلاحظ أن الدول الممولة لأميركا لم تفرض أي شروط كهذه عليها. وتكشف هذه الحقيقة استمرار العالم في التعامل مع أميركا باعتبارها دولة موثوق بها وقادرة على سداد ما عليها من ديون. كما يعتقد ممولو أميركا أن الأزمة التي تمر بها مؤسساتها حالياً ليست سوى عاصفة عابرة، وأن في وسع القيادة القوية والمسؤولة في واشنطن وضع حد لرفاهية مواطنيها المتجاوزة لقدراتهم المالية الحقيقية.
ثانياً: ربما يظل الجيش الأميركي على قوته وتفوقه العسكريين، على رغم المصاعب التي يواجهها حالياً في العراق وأفغانستان. فقد علمنا من المعلومات السرية المصنفة التي جرى الكشف عنها مؤخراً أن واشنطن كانت على استعداد لاستخدام القوة من أجل وضع يدها على حقول النفط الشرق أوسطية، ووضع حد لمقاطعة النفط في عام 1974.
وتؤكد عقيدة الحرب الاستباقية التي انتهجتها إدارة بوش، والغزوات التي شنتها في كل من أفغانستان والعراق، إضافة إلى توغل "الناتو" شرقاً باتجاه الحدود الروسية، أن واشنطن لن تتردد مطلقاً في استخدام القوة متى ما استدعت ذلك الحيلولة دون انخفاض وزنها ومكانتها الدولية إلى قوة ثانية أو ثالثة عالمياً. وقد أعلن بوش عن هذه الهيمنة العالمية هدفاً استراتيجياً لأميركا بقوله: على أميركا أن تبقى على قوة جيشها بعيدة عن أي منافسة دولية.
ثالثاً: أدت العولمة إلى تزايد اندماج الاقتصادات العالمية وأسواقها المالية مع بعضها بعضاً. وفي الوقت نفسه أدت العولمة إلى تزايد الاعتماد المتبادل بين هذه الاقتصادات والأسواق المالية. وما أن بدأت التصدعات تصيب جسد النظام المالي الأميركي المتحرر من أي قيود أو نظم، وبدت عليه مظاهر الأزمة الناشئة عن انهيار القطاع العقاري أولاً، ثم أزمة الأوراق المالية المشتبه فيها أصلاً، حتى تكشف مدى ضعف النظام المصرفي، وسرعان ما انتشرت أعراض وباء الأزمة المالية لتصيب أسواق العالم واقتصاداته كلها.
وغني عن القول إنه في مصلحة دائني أميركا ومموليها مد يد العون لإنقاذ اقتصادها من ويلات الكساد الذي بات يتهددها، فضلاً عن إنقاذها من تراجع وزنها العالمي. غير أن هذه الأزمة ربما تدلل على اندثار نمط اقتصادي بعينه، ألا وهو النمط القائم على أيديولوجية السوق الحرة. وتعود نشأة هذا النمط إلى الثورات الأيديولوجية التي قادها كل من الرئيس الأسبق رونالد ريجان وحليفته البريطانية القوية مارجريت تاتشر. فقد تعاونا على بلورة وتأسيس ما عرف لاحقاً بـ"إجماع واشنطن". ويعني هذا الإجماع الترويج لسياسات تحرير حركة الأسواق تماماً من أي تدخل حكومي، إلى جانب خصخصة الشركات والاستثمارات الوطنية للدول، مصحوبة بوقف سياسات الدعم الحكومي ووضع حد لدولة الرفاه الاجتماعي. وبالنتيجة تحولت هذه السياسات إلى شروط واجب توفرها وتطبيقها في الدول النامية، قبل أن تتأهل للحصول على أي تمويل من البنك وصندوق النقد الدوليين.
في خطاب ألقاه هنري بولسون وزير الخزانة الأميركية أمام جمع من الحضور الصينيين في شهر مارس من العام الماضي، قال إن في وسع الأسواق التنافسية الحرة المنفتحة أن تفلح في توزيع الموارد الاقتصادية الشحيحة على نحو يحفز الاستقرار والازدهار الاقتصاديين، أفضل مما يستطيعه أي تدخل حكومي مهما كان. غير أن الذي حدث عملياً هو فشل الأسواق الحرة هذه في توفير الضمانات اللازمة لتفادي انعدام المسؤولية الفردية والجشع. وقد أصابت صحيفة "نيويورك تايمز" في وصفها وتفسيرها لمسببات الأزمة المالية هذه بقولها إنها نشأت نتيجة لطيش المسؤولين والسلوك الافتراسي لممولي الرهن العقاري للبيوت. ومن جانبه وصف رئيس الوزراء الفرنسي فرانسوا فييُّون المشهد الاقتصادي المالي السائد عالمياً الآن بقوله: لقد أصبح العالم بأسره على شفا متاهة مالية ناشئة عن عدم مسؤولية النظام المالي. ولكن ربما لا يفوق أحد مسؤولية عن نشوء هذه الأزمة، آلان جرينسبان، الرئيس السابق لبنك الاحتياطي الفيدرالي -وإلى جانبه بالطبع المشرعون الأميركيون والساسة الدوغمائيون في كلا الحزبين "الديمقراطي" و"الجمهوري" على حد سواء. يذكر أن "جرينسبان" ظل طويلا بمثابة الفتى المدلل من قبل إدارتي الحزبين المتعاقبتين، إلا إنه أصبح عرضة للهجوم والنقد بسبب عدم ممارسة السلطات الواسعة التي منحت له في تنظيم وتقييد النظام المالي. وهذا ما أقر به "جرينسبان" نفسه خلال الإفادات والإجابات التي أدلى بها أمام جلسة استماع عقدها الكونجرس مؤخراً.