سكان القاع... التجارة بدل المساعدات!
في هذا الكتاب، يكرس المؤلف بول كوليار جهده لدراسة أوضاع شعوب الدول النامية الأشد فقراً واستمرار تدهور أحوالها المعيشية واقتصادات بلدانها، مع محاولة تقديم الحلول الملائمة للمشكلة. يبدأ المؤلف بالقول إن العولمة الاقتصادية حققت فوائد ومكاسب كبيرة للغالبية العظمى من شعوب الدول النامية والمتقدمة على حد سواء، فيما عدا مجموعة كبيرة من دول أفريقيا ومنطقتي الكاريبي والمحيط الهادئ. ويبلغ الحجم السكاني لهذه الدول نحو مليار نسمة، من إجمالي سكان العالم البالغ تعدادهم نحو 6.5 مليار نسمة. وتتلخص المشكلة في أن هذا المليار الذي يعد الأشد فقراً على الإطلاق يتزايد تهميشه وإقصاؤه من قبل العولمة. فمثلاً، كان متوسط نصيب الفرد من نمو إجمالي الناتج المحلي في هذه الدول في سبعينات القرن الماضي، هو 0.5?، لينخفض إلى 0.4? خلال الثمانينات. وبالمقارنة فقد ارتفع متوسط نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي في الدول النامية والمتقدمة الأخرى على نحو مطرد. وتشير الإحصاءات إلى ارتفاع نمو هذا المتوسط من 2.5? خلال السبعينيات إلى 4? خلال عقدي الثمانينات والتسعينات. وهكذا تبين لغة الإحصاء والأرقام أن هناك هوة اقتصادية كبيرة تفصل ما بين الدول الأشد فقراً -وهي ما نطلق عليه مجازاً تسمية "سكان القاع" في إشارة إلى المليار نسمة الذين يناقش المؤلف أوضاعهم في هذا الكتاب- وبقية دول وشعوب العالم الأخرى.
والسؤال: كيف تفسر هذه الفجوة إذن؟ يتصدى الكاتب للإجابة بالقول إن تشخيص الوضع الاقتصادي لكل واحدة من هذه الدول، ثم تشخيص العلل الاقتصادية والمالية المشتركة بينها جميعاً، يشيران إلى إخفاق الدول الأفريقية التي يشملها مليار الفقر، في تنمية ما يكفي من الوظائف في قطاع التصدير، لاسيما صناعات الملابس والنسيج. ويعود هذا الإخفاق إلى أنه وفيما عدا الولايات المتحدة الأميركية، فالمعروف عن الاتحاد الأوروبي أنه يفرض رسوماً جمركية على واردات الملابس الأفريقية. كما يفسر هذا الإخفاق أيضاً بتأثير القيود والنظم الغبية التي تفرض على صادرات الدول الإفريقية من الملابس والمنسوجات. وبالمقارنة يلاحظ نجاح دول عديدة في جنوبي وشرقي آسيا مثل بنجلاديش وفيتنام في تنمية الصادرات والصناعات نفسها. وعليه يقترح المؤلف أن تتبنى الدول الثماني الكبرى سياسات جديدة مشتركة فيما بينها، تهدف إلى تشجيع صادرات القارة الأفريقية بدلاً من استمرار سياسات العون الإنساني، في عصر يتوقع فيه تراجع العون الإنساني نفسه لعدة عقود لاحقة. هذا ما يتصل بتفسير بعض أسباب الفقر في الدول الأفريقية المشمولة في حدود مليار الفقر. ولكن بوجه عام، يذهب المؤلف إلى رد ظاهرة الفقر في مجموعة الدول التي تناولها في دراسته هذه، إلى عدة عوامل منها الحروب الأهلية والنزاعات الداخلية، الاعتماد الزائد على تصدير الموارد الطبيعية، إضافة إلى سوء الحكم والنزاع المستمر بين الإصلاحيين والقادة الفاسدين، مع أن الفوز دائماً من نصيب الفئة الأخيرة. هذه أولى الملاحظات التي يثيرها المؤلف حول الظاهرة.
أما الملاحظة الثانية فهي أن سكان القاع هؤلاء قد شهدوا قفزة هائلة في معدلات عائداتهم، بسبب ارتفاع أسعار النفط والمواد المعدنية خلال الأعوام الأخيرة الماضية. والحقيقة أن هذه العائدات تفوق أي مساعدات إنسانية اقتصادية يمكن أن تقدمها دول العالم للشعوب المعنية. لكن يزداد الخوف والقلق من أن يؤدي هذا النمو الملحوظ في العائدات إلى إشعال نيران الجشع والظلم، مثلما حدث في سبعينات القرن الماضي، ما يعني تجديد نيران النزاعات الداخلية وفتح الطريق واسعاً أمام ممارسات الفساد في قمة الجهاز التنفيذي للدولة في هذا العالم، وغير ذلك من أشكال سوء الحكم. وفيما لو حدث كل هذا، فلن تكون النتيجة سوى إهدار الوقت والمال وإفقار سكان القاع الاقتصادي أكثر مما هم عليه من فقر سلفاً. كما علينا أن نضع في الحسبان أيضاً أنه في وسع الساسة والجنرالات الفاسدين الممسكين بزمام السلطة والمال في الدول المعنية دائماً تهريب الأموال ووضعها في حسابات وأرصدة مالية تخصهم في البنوك الأجنبية خارج حدود بلدانهم.
أما الملاحظة الثالثة فتتلخص في أن كلاً من العون الإنساني والاقتصادي والتجارة والالتزامات الأمنية والحكم الرشيد والإدارة الفعالة والمسؤولة للموارد... تعد عناصر ومكونات تكميلية مهمة في التنمية الاقتصادية الاجتماعية. ولتبني الحلول الملائمة لمشكلات سكان القاع، لا سبيل في رأي الكاتب سوى ابتكار خطة مارشال عصرية جديدة، شبيهة بتلك التي تبنتها الولايات المتحدة الأميركية في أعقاب الحرب العالمية الثانية. وبموجب تلك الخطة، تمكنت أوروبا من إعادة إعمار بنياتها الأساسية واقتصاداتها التي دمرتها الحرب، بينما تكفل حلف الناتو بتحسين الوضع الأمني في كافة دول القارة الأوروبية. وفي حال تطبيق خطة شبيهة لانتشال دول مليار القاع من هوة الفقر، فإنه لابد من رفع سقف العون الاقتصادي والإنساني المقدم للدول المعنية، فضلاً عن مزيد من الالتزام بتوسيع النشاط التجاري معها. أما في الجانب الأمني، فيتطلب الأمر التزام الدول النامية نفسها بنشر مزيد من القوات العسكرية في مناطق النزاعات والاضطرابات، حتى تصبح السيطرة عليها ممكنة، بما يوفر البيئية الأمنية المستقرة والملائمة لحفز النمو الاقتصادي.
عبد الجبار عبد الله
الكتاب: مليار القاع: لماذا تفشل الدول الأكثر فقراً وما الذي يمكن فعله؟
المؤلف: بول كوليار
الناشر: مطبعة جامعة أوكسفورد-أميركا
تاريخ النشر: 2008