يبدو أن النجاح الذي حققه مهرجان الفنون العربية الذي أقيم في الصين عام 2006 حفز العرب والهنود معاً على تدارك ما كان من تقصير طال مداه في تحقيق تواصل أكبر بين الثقافتين العربية والهندية. وهذا التواصل هو الأعرق بين الثقافات والحضارات القديمة. فقد حقق العرب مع أصدقائهم الهنود مثاقفة ضخمة قبل الإسلام. تبدو عند بعض الباحثين العرب أعمق من التأثر بثقافة اليونان. وهم يذكرون الطبيب العربي الشهير الحارث بن كلدة الثقفي نموذجاً لهذا التأثر والإفادة من الحضارة الهندية وما قدمت في علوم الطب والفلسفة قبل الإسلام. وتبدو شهرة السيف الهندي والمهند في الأدب العربي وإطلاق اسم هند على حرائر النساء العربيات دليل صلات اجتماعية و تجارية عريقة. لكن المثاقفة بلغت ذروتها بعد ظهور الإسلام. فحين دخل أبو القاسم الثقفي إلى الهند وجد استجابة كبرى من الهنود الذين دخلوا في الإسلام وضخوا فكرهم وثقافتهم في حضارته. وكان ظهور كتاب "السند هنت" حدثاً ثقافياً مهماً في الحضارة العربية في القرن الخامس الهجري، ومثله كتابا "أركند" و"أرجهند" وما نقل العرب عن الهند من علوم الرياضيات حتى دخلت الأرقام الهندية في حسابهم رغم وجود أرقام عربية (الغبارية التي يستخدمها الأوروبيون)، ويبدو البيروني تاريخياً أهم جسر تواصل حضاري بين الثقافتين. فقد عاش نحو أربعين سنة في الهند ونقل إلى العربية كتاب "ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة"، ويعبر اختيار البيروني لهذا العنوان عن انفتاح فكري كبير. وكان العلماء الهنود يجدون في بلاط الخلفاء المسلمين من أمثال المأمون مثلاً فرصة لتطوير علومهم. ولاسيما بعد ثورة الترجمة التي قام بها فمزج علوم الهند بعلوم اليونان. وقد ورثت البشرية من تلاقح هاتين الثقافتين أعمالاً أدبية رفيعة الشأن مثل كتاب "كليلة ودمنة" للفيلسوف الهندي بيدبا الذي ترجمه ابن المقفع. وقد دخلت إلى الثقافة العربية من بوابة واسعة كتب الهند الملحمية العظيمة مثل "الفيدا" و"المهاباهاراتا" و"الراميانا". ومثلها كثير من الأساطير التي أفاد منها أدباء العرب. وفي الهند أوابد أثرية إسلامية مهمة باتت من عجائب الدنيا مثل تاج محل، وقطب منار حيث البناء الإسلامي البارع. وثمة جامعة عليكرة ذات المكانة العلمية النهضوية. وما تزال كنوز ثقافتنا الإسلامية من المخطوطات موجودة في الهند إلى اليوم. وعددها يزيد على مئة وخمسين ألف مخطوطة تنتظر من يقوم بتحقيقها وإثراء الثقافة الإنسانية بها. وعلى رغم حدوث انقطاع معرفي في العصور المتأخرة. إلا أن العرب سرعان ما عادوا إلى التفاعل مع إبداعات الهند. وحسبنا أن نذكر جهد بعض الدبلوماسيين السوريين مثل الشاعر عمر أبوريشة وبديع حقي. فقد نقل لنا أبوريشة تجربته الفريدة التي عاشها في الهند. وأعتقد أن قصيدته "كاجوراو" من أبدع ما في أدبنا العربي من وصف لأثر: "من منكما وهب الأمان لأخيه أنت أم الزمان؟ شقيت على أعتابك الغارات. وانتحرت هوان. وبقيت وحدك فوق هذا الصخر. وقفة عنفوان". وقد عرف الهنود قدر أبي ريشة وكرموه. وقد روى لي رحمه الله طرائف من هذه التجربة الفذة التي تركت أثراً ضخماً في أدبه وثقافته. وأما بديع حقي فقد نقل لنا روائع طاغور وسواها. لكننا نجد غياباً لثقافة الهند الحديثة عن أدبنا عدا هذه الإشارات التي لا تكافئ عمق العلاقة. وعلى رغم الانقطاع الذي طال مداه ثقافياً في فترات وقوع العرب والهنود تحت الاحتلال، فإن النهوض كان متوازياً وقد بلغ ذروته في منتصف الخمسينيات عبر العلاقة التي بناها الرئيس جمال عبدالناصر مع الزعيم نهرو، وحققا معاً نجاحاً للعالم الثالث عبر مؤتمر باندونغ 1955 حيث نهضت دول عدم الانحياز بدور مهم على الصعيد الدولي. وكانت الهند مؤيدة جادة لقضايانا العربية. لكن توقيع اتفاقية "كامب ديفيد" أفقد الدول الصديقة مثل الهند مبرر قطع علاقاتها مع إسرائيل من أجل العرب. وعلى رغم الفتور الذي ساد العلاقات العربية- الهندية السياسية بعد نمو علاقاتها مع إسرائيل، فإن التبادل الاقتصادي كان في نمو كبير. بل إن دول الخليج العربي فتحت أبوابها للعمالة الهندية حتى بلغ عدد الهنود المقيمين في دول الخليج بين عاملين ومستثمرين الملايين. وكانت الهند قد طورت علاقاتها مع إسرائيل بقوة منذ مطلع التسعينيات وبات التعاون الهندي- الإسرائيلي العسكري متسارع النمو، ولاسيما لكون الهند دخلت النادي النووي. وبالطبع لن نطلب من الهند أو سواها من الدول الصديقة أن تخلص لقضايا العرب أكثر مما يفعل بعض العرب أنفسهم. ولو أن العرب عادوا إلى جعل الموقف من القضية الفلسطينية معياراً لعلاقاتهم الدولية لتغير موقف العالم منهم. وحسبنا دول أفريقيا نموذجاً. المهم أننا ننظر إلى استعادة العلاقة الحميمة مع الهند باهتمام. وتبدو العودة من بوابة الثقافة أرحب وأوسع لأن الثقافة تشكل الأرضية الصلبة التي تنمو عليها علاقات الدول. وسيكون مفيداً التوقيع على مذكرة تفاهم بين الجامعة العربية وبين الهند لإنشاء منتدى التعاون العربي- الهندي المشترك. وذلك متابعة لما تم الاتفاق عليه بين اتحاد الغرف التجارية والصناعية في الهند وبين منظمة "الألكسو" هذا العام. وأرجو أن نتمكن من بحث مستقبل علاقات العرب مع الهند على ضوء المستجدات الدولية التي تجعل العالم كله يتوقع تغيراً في خريطة السياسة الدولية، ولاسيما بعد أن أعلن النظام الرأسمالي إخفاقه، وبعد أن سقطت سياسة القطب الواحد الذي قاد البشرية إلى الدمار. ومع أننا لا نؤمن بسياسة التحالفات إلا أن استعادة مفهوم عدم الانحياز سيمكن العالم من استعادة توازنه. في وقت تشعر فيه البشرية بالحاجة الماسة إلى ظهور بدائل بات الأوروبيون أنفسهم أكثر حاجة إليها بعد طول الارتهان للسياسة الأميركية الأحادية. وأعتقد أن الخطوة العربية- الهندية وإن جاءت متأخرة بحساب ما بين العرب والهند من قواسم مشتركة فإنها تعالج التقصير الذي ينبغي أن يسعى الجانبان إلى تجاوزه. بقي أن نقول إن من المفجع ما حدث في مومباي مؤخراً من هجمات إرهابية قيل إن مسلمين خلفها. وأعتقد أن تستر الإرهابيين بالإسلام بات أمراً مبرمجاً هدفه الواضح هو الإساءة للمسلمين في كل مكان من العالم. ولا يخفى وجود هدف إقليمي هو إثارة الفتنة بين الهند وجيرانها في باكستان التي تتعرض لسيل من العمليات الإرهابية كل يوم. والمثير أن كل الجرائم الإرهابية التي تحدث في العالم تعلق اليوم على عنق الإسلام. ويستدعي الوضع سؤالاً مهماً: هل الإسلام جديد في العالم؟ وما السر في أن الإسلام عاش متصالحاً مع كل الثقافات الأممية أربعة عشر قرناً ولم يظهر كعدو للبشرية إلا حين قرر الصهاينة ومن يسمون "المحافظين الجدد" اعتباره عدواً؟ إننا نرجو استبعاد الأديان من الصراعات الدولية لأن الدين كله لله. ولا يوجد دين يبرر الجريمة.