المعالم الأساسية لحضارة العولمة
قررنا من قبل أن العالم ودع بالفعل حضارة المجتمع الصناعي التي أكملت دورتها في ظل مشروع الحداثة الغربي. ونحن ننتقل الآن من هذه الحضارة بسلبياتها وإيجابياتها إلى حضارة جديدة، هي حضارة العولمة التي تعبر عن عصر ما بعد الحداثة. وهذه الحضارة اجتهد عديد من الباحثين في إبراز ملامحها.
وقد قمت بمحاولة في هذا المجال في كتابي "الوعي التاريخي والثورة الكونية: حوار الحضارات في عالم متغير، القاهرة: مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية، الطبعة الثانية، 1995".
في هذا الكتاب وفي دراسة بعنوان "تغيير العالم: جدلية السقوط والصعود والوسطية" (ص77 وما بعدها) صغت في فقرة بعنوان "نحو حضارة عالمية جديدة" نموذجاً أطلقت عليه "النموذج التوفيقي العالمي" الذي سيبرز بعد سقوط الثنائيات الشهيرة التي سادت القرن العشرين. وقد قررنا بهذا الصدد أنه ستكون هناك محاولات للتوفيق بين:
- الفردية والجماعية على الصعيد الإيديولوجي والاقتصادي والسياسي.
بعدما أظهرت خبرة التطبيق السوفييتي للماركسية فساد فرض الجماعية فرضاً على المجتمع ومصادرة كل النوازع الفردية، مما أدى عملياً إلى قتل المبادرات الشخصية، والوقوع في أسر البيروقراطية، واستشراء الفساد.
- بين العلمانية والدين. وذلك بعد بروز شطط العلمانية المتطرفة، وجمود الفكر الديني فيما يتعلق بمبدأ الفصل بين الدين والدولة.
- بين عمومية مقولة الديمقراطية وخصوصية التطبيق في ضوء التاريخ الاجتماعي الفريد في كل قُطر. وهذا يعني رفض فكرة فرض نموذج غربي على الدول غير الغربية فرضاً من ناحية، ووضع حدود لفكرة الخصوصية الثقافية المغلقة التي ترفع كشعار لمقاومة تطبيق الديمقراطية.
- بين القطاع العام والقطاع الخاص. وذلك بعد أن تبين فساد صيغة تعميم نموذج القطاع العام ومصادرة القطاع الخاص.
- بين الاستقلال الوطني والاعتماد المتبادل.
- بين المصلحة القطرية والمصلحة الإقليمية (صيغة التجمعات الإقليمية كالاتحاد الأوروبي والنافتا والآسيان). وذلك بعد أن تبين أنه ليس هناك تعارض حتمي بين سيادة الدولة القطرية والانتماء للتجمعات الإقليمية.
- بين الآنا والآخر على الصعيد الحضاري. وذلك في ضوء سقوط مقولة صراع الحضارات، وسيادة فكرة حوار الثقافات.
- بين الدولة الكبيرة المركزية في مواجهة التجمعات المحلية والتجمعات الصغيرة التي تسودها اللامركزية. وأهمية هذا المبدأ أن تغول الدولة المركزية على مجمل فضاء المجتمع، أدى في الواقع إلى تهميش المجتمعات المحلية.
- بين تحديث الإنتاج وزيادة الاستهلاك وتنويعه والبحث عن معنى للحياة في نفس الوقت، في ضوء العودة إلى مفهوم التقدم بدلاً من مفهوم التنمية. وذلك لأنه ثبت أن مؤشر ارتفاع الدخل القومي ليس موضوعياً في مجال قياس التقدم الإنساني.
- بين زيادة معدلات التنمية في البلاد المتقدمة ومساعدة دول العالم الثالث على اللحاق. وهذا المبدأ لا يثير المسألة من الناحية الأخلاقية فقط، ولكن من زاوية حق دول العالم الثالث التي نهبت الدول المتقدمة مواردها من قبل.
- بين الإعلام القُطري والإعلام العالمي. وهذا مبدأ بالغ الأهمية بعد الغزو الإعلامي الفضائي العالمي.
وقد قررنا أن النموذج التوفيقي العالمي الجديد سيتسم بسمات أربع لو استطاعت قوى التقدم أن تنتصر على قوى المحافظة والرجعية:
1- التسامح الثقافي المبني على مبدأ النسبية الثقافية في مواجهة العنصرية والمركزية الغربية.
2- النسبية الفكرية بعد أن تنتصر على الإطلاقية الإيديولوجية.
3- إطلاق الطاقات الخلاقة للإنسان في سياقات ديمقراطية على كافة المستويات.
4- العودة إلى إحياء المجتمعات المحلية، وتقليص مركزية الدولة.
5- إحياء المجتمع المدني في مواجهة الدولة التي غزت المجال العام ولم تترك إلا مساحة ضئيلة للمجال الخاص.
6- التوازن بين القيم المادية والقيم الروحية والإنسانية.
وبالإضافة إلى النموذج التوفيقي العالمي الذي صغناه، ظهرت محاولة بالغة الأهمية صاغها كل من "دوان الجين" و"كولين لي درو" هي عبارة عن نموذج جديد يعد من أبرز النماذج التي صيغت في العقود الأخيرة لمحاولة تخطي مرحلة سقوط النموذج الحضاري القديم بعد نهاية الحرب الباردة وتجاوزاً لمرحلة أزمة النموذج.
- واسم النموذج "تغير الوعي الكوني: مؤشرات لنموذج بازغ".
وقد حدد النموذج خمسة مؤشرات رئيسية تكشف عن تكون وعي اجتماعي جديد.
المؤشر الأول: بزوغ مستوى جديد من الاتصالات على مستوى العالم. والتساؤل هنا هل هذه الاتصالات المتعددة أصبحت المعادل لجهاز عصبي مركزي؟
وهل نحن نخلق الآن تغييراً في النموذج الراهن لتأسيس عقل كوني global brain للكوكب الذي نعيش فيه؟
المؤشر الثاني: زيادة الوعي الإيكولوجي والاهتمام الكوني بصحة وسلامة الكوكب الذي نعيش فيه.
المؤشر الثالث: هناك نقلة كيفية حضارية تتمثل في الانتقال من القيم المادية إلى القيم ما بعد المادية (راجع بهذا الصدد المسح العالمي للقيم الذي أشرف عليه انجلهارت وطبق في 43 دولة وتمثل العينات القومية المبحوثة 70% من الإنسانية المعاصرة).
ومن بين القيم بعد المادية الاهتمام بالاستدامة البيئية وتسامح أكبر فيما يتعلق بالعرق والسلالة والفروق الجنسية، والاهتمام بالانتقال من السلطة المؤسسية إلى السلطة الفردية.
المؤشر الرابع: هل هناك نمو في الممارسات الروحية غير التقليدية والتي تستخدم لبناء وعي جديد؟ وإلى أي حد ينظر الناس للطبيعة باعتبارها مقدسة وذات حضور روحي؟
المؤشر الخامس: هل هناك ظهور لأساليب حياة مستدامة Sustainable تنزع لابتداع أساليب حياة تسمح بتكامل الجوانب الداخلية للإنسان مع الجوانب الخارجية في كل متوازن، وهل هناك تغيرات في مجال العمل والغذاء وأنماط الاستهلاك والمواصلات والعلاقات أو في مجالات أخرى، تعبر عن الرغبة في الحياة بصورة أكثر استدامة؟
لقد حاولنا في هذه السلسلة الممتدة من المقالات أن نضع موضوع ثقافة التنمية من أين تبدأ في إطار السياق التاريخي والحضاري للعالم الحديث والمعاصر، وفي ضوء نوعية الثقافة السائدة. ولذلك ميزنا بين ثقافة التنمية في عصر الحداثة الذي نشأ المجتمع الصناعي في ظله، وثقافة التنمية في عصر العولمة الذي برز فيه مجتمع المعلومات العالمي الذي نعيشه الآن.
ويمكن القول إن ثقافة التنمية بشكل عام لابد أن تتأثر في توجهاتها بنمط الإنتاج السائد. ولذلك حين تحول نمط الإنتاج من الرأسمالية الصناعية إلى ما يمكن أن يطلق عليه الرأسمالية المعلوماتية كان لابد لثقافة التنمية أن تتغير هي الأخرى.
وقد يكون مناسباً في النهاية أن نختم عرضنا للأبعاد المختلفة لثقافة التنمية بفقرة مقتطفة من عالم الاقتصاد الشهير "آمارتيا سن" Amartya sen الذي حصل على جائزة نوبل في الاقتصاد في محاضرة ممتازة له عن "الثقافة والتنمية". ويجيب "آمارتيا سن" على أسئلة طرحها وهي العلاقة بين الثقافة والتنمية بقوله -وأنا أقتبس: "هذه في الواقع أسئلة من الصعب الإجابة عنها لأن الموضوعات الثقافية يمكن أن تكون بالغة الأهمية بالنسبة للتنمية. والعلاقات بينهما تأخذ أشكالاً متعددة تتعلق بأهداف وأدوات التنمية. ذلك أن الموضوعات الثقافية هي أجزاء تقع في صميم حيواتنا. وإذا كانت التنمية يمكن النظر إليها باعتبارها عاملاً من عوامل ازدهار مستويات معيشتنا، فإن الجهود التي تبذل في مجال التنمية من الصعب أن تتجاهل عالم الثقافة. وذلك لأن التغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي تحدثها التنمية يمكن أن تؤثر إيجاباً أو سلباً في مسارات الثقافة، ومن المناسب أن نتبنى النظرة التي مفادها أن هذه التغيرات تستحق عظيم الاهتمام". وبعد هذه العبارة العامة يفرق "آمارتيا سن" بين دور الثقافة كأداة من أدوات التنمية، ودورها باعتبارها جزءاً أساسياً من مكونات التنمية.
ويشير بهذا الصدد إشارات مهمة إلى دور القيم الآسيوية في نهضة عديد من دول آسيا الكبرى مثل اليابان، والصين، مما يؤكد دور الثقافة المحوري في إحداث التنمية.
ولعل هذا يطرح سؤالاً يستحق أن نجيب عليه وهو: هل القيم الآسيوية تختلف اختلافات جوهرية عن القيم العربية، وأين مواضع الاختلاف وجوانب الاتفاق؟