يفترض أن تكون هذه هي فرصة الصين لتبرز وتتألق؛ فهي تمتلك ما يقدر بنحو تريليوني دولار من احتياطي العملة الأجنبية، ويتوقع أن تحقق نسبة نمو تناهز 9 في المئة هذا العام، ولعلها أعلى نسبة نمو يسجلها أي بلد منذ سنوات طويلة. ووسط أزمة مالية عالمية عاصفة، يطرق العالم باب الصين باحثاً عن زعامة، غير أن قادة الصين يبقون على الباب موصداً في الغالب، مجادلين بأن بكين إنما تستطيع فقط إسداء أفضل خدمة للعالم عبر ترتيب بيتها من الداخل؛ فهي تريد أن تكون شريكاً مسؤولا فحسب، وليس زعيماً عالمياً! ولعل كثيرين في الولايات المتحدة الأميركية يعتقدون أن الصين حالياً تريد الصعود إلى مرتبة القوة العالمية العظمى، وما من وقت أنسب بالنسبة لبكين كي تفعل ذلك من الوقت الحالي! والحقيقة أن الصين تكتسي كل يوم أهمية أكبر بالنسبة للعالم، ليس بخصوص التجارة والمال فحسب، وإنما أيضاً بخصوص تغير المناخ وسلامة المواد الغذائية وحظر الانتشار النووي وتحديات عالمية أخرى. غير أن قادة الصين على حق؛ فهم في حاجة إلى التركيز على الجبهة الداخلية قبل أن يمدوا اهتمامهم إلى العالم الخارجي، من أجل مصلحتهم ومصلحتنا معاً. وفوق كل شيء، على قادة الصين أن يحددوا إلى أين يريدون الذهاب سياسياً، ذلك أنه من الصعب أن تكون زعيماً عالمياً بينما يخضع نظامك السياسي الداخلي لعملية انتقال ضخمة، بل الأسوأ من ذلك، أنه نظام يعاني حالة فوضى. فالصين تواجه أكثر من 90000 احتجاج خلال العام نتيجة استشراء الفساد والأزمات المتواصلة في مجالات الصحة العامة والبيئة. بل إن الصادرات، وهي شريان الحياة بالنسبة للاقتصاد الصيني، تبدو الآن في انهيار متواصل، وقد أصبح العمال المسرَّحون يُحصون بعشرات الآلاف؛ كما خسر سوق الأوراق المالية الصيني ثلثي قيمته على مدى العام الماضي. وفي هذه الأثناء، تنقل وسائل الإعلام الصينية يومياً قوانين وتنظيمات جديدة لتقليص قدرة المصانع على طرد العمال، ولإعادة هيكلة القطاع الصحي. إلا أن كل ذلك أخفق في طمأنة الشعب الصيني، والكثيرين خارج البلاد، بأن لدى حكومة بكين خطة واضحة حول مستقبلها السياسي والاقتصادي. وقبل أن يعالج قادة الصين مشاكلهم الداخلية، فإننا لا نريدهم أن يلعبوا دوراً خارجياً أكبر من إمكاناتهم وخبرتهم، لأن نظامهم السياسي في حاجة ماسة إلى الشفافية والمحاسبة الرسمية وحكم القانون. ثم إنه قبل أن تصبح المؤسسات السياسية الصينية في صحة جيدة، فإن زعامة صينية دولية ستتسبب في عدد من المشاكل ربما يفوق ما يمكن أن تحله. فخلال الأزمة المالية العالمية، على سبيل المثال، وُجهت دعوات إلى بكين من أجل لعب دور أكبر في صندوق النقد الدولي. وفي الظاهر، يبدو ذلك منطقياً بالنظر إلى الوضع المالي المريح والمذهل الذي تنعم به الصين حاليا. غير أن دعوات رئيس الوزراء "وين جياباو" إلى إصلاح "صندوق النقد الدولي"، قد تؤشر إلى تحد لجهود "الصندوق" في مجال تشجيع الشفافية والمحاسبة في البلدان التي يقوم بإقراضها؛ فقد قاومت الصين في مناسبات عديدة دعوات للشفافية في إدارة المساعدات الخارجية التي تقدمها لبعض الدول النامية. وإضافة إلى تطوير القدرة السياسية من أجل الاضطلاع بدور الزعامة، فإن الوقت الذي تمضيه بكين في ترتيب بيتها من شأنه أن يسمح لها بتطوير الإمكانيات الاقتصادية اللازمة التي تقتضيها الزعامة، لأن الزعامة تعني أن تكون قدوة، وغالباً ما تتطلب تضحيات سياسية واقتصادية في الداخل من أجل مصالح أكبر في الخارج. والحال أن الصين لم تُظهر ميلا كبيراً إلى مثل هذه التضحيات، لأسباب منها أنها لا تعتقد أنها تمتلك القدرة الاقتصادية للقيام بذلك. ومعنى ذلك بشكل عام أن الصين بحاجة إلى تطوير وتوسيع اقتصادها. وبخصوص موضوع تغير المناخ والتلوث البيئي، على سبيل المثال، فإن الصين تعد من أكثر المؤيدين للإطار الدولي الحالي بخصوص المناخ، وهي أكبر المستفيدين منه أيضاً، وقد أعربت عن التزامها بالجولة المقبلة من المفاوضات الدولية حول التغير المناخي. وعلاوة على ذلك، أطلقت بكين مبادرة داخلية تروم تقليص كمية الطاقة التي تستعملها وتوسيع اعتمادها على استخدام مصادر الطاقات النظيفة والمتجددة. غير أن الصين تتحاشى الاختيارات الاقتصادية الصعبة التي قد ينطوي عليها تبني أهداف وجداول زمنية صعبة بخصوص تقليص الانبعاثات الغازية، كما تسعى إلى الحصول على التكنولوجيا النظيفة عبر صندوق عالمي تدعمه دول العالم المتقدم. وبالتالي، فالصين لاعب دولي مسؤول، وليس زعيما عالمياً. بيد أن الاعتراف بتردد الصين في الزعامة لا يعني أن على العالم أن يقف موقف المتفرج أو يكتفي بالانتظار. صحيح أن شق الصين لطريقها نحو إدارة جيدة في الداخل وزعامة في الخارج سيكون من صنعها بالأساس. غير أن الولايات المتحدة وقوى دولية أساسية أخرى تستطيع المساهمة في هذه العملية من خلال العمل المشترك في مجالات التعاون الممكنة، واستخدام الضغط حيث يكون ذلك ضرورياً. والواقع أن مؤسسات مثل "الحوار الاقتصادي الاستراتيجي الأميركي -الصيني"، توفر إطاراً جيداً للتعاون الثنائي حول قضايا الاقتصاد والبيئة والطاقة. فصحيح أن "الحوار" مازال فتياً وفي بداياته، لكنه يتوفر على إمكانية لتحقيق تقدم مهم في هذه المواضيع الأساسية. وفي غضون ذلك، على الولايات المتحدة أن تكون مستعدة، لاسيما بخصوص المواضيع الحساسة مثل سلامة المواد الغذائية وتغير المناخ ودارفور... للعمل مع بقية العالم على الضغط على الصين بقوة أكبر، وليس قوة أقل، حتى تحملها على إعادة التفكير في سياساتها وإصلاحها. وقبل كل شيء، تستطيع الولايات المتحدة أن تقدم أفضل مساعدة وخدمة عبر ترتيب بيتها. فنحن والصين لم نبذل جهوداً جادة في سبيل محاربة تغير المناخ؛ وقد أدى افتقارنا إلى إدارة جيدة لشؤوننا في الداخل، إلى مفاقمة وتكريس احتمال تعرضنا لأزمات بخصوص سلامة الأطعمة والمواد الغذائية، كما سرّع حدوث الأزمة المالية العالمية. إن مؤسساتنا السياسية وآلاتنا المالية لم تكسر، لكنها أُضعفت إلى حد خطير. وعليه، فإننا والعالم سندفع ثمناً باهظاً إلى أن تتبوأ الصين موقعاً تستطيع من خلاله أن تتزعم هي أيضاً العالم. ---------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"