المخرج الوحيد من مأزق غزة
ما يحصل الآن على الساحة الفلسطينية صراع مكشوف على السلطة بين "فتح" و"حماس". والمناكفات الأخيرة في موضوع الحجاج الفلسطينيين آخر المؤشرات على أن أصل الأزمة، والمتحكم في تطوراتها هو تضارب المصالح السياسية بين حكومتي رام الله وغزة، ومن ورائهما الفصائل والتنظيمات الأخرى التي تشكل في مجموعها القوى السياسية الفاعلة على الساحة. معنى ذلك أن الأزمة سياسية، وأن أصلها السياسي أدى إلى إشكالات وتجاوزات دستورية من قبل الطرفين، وليس العكس، أي أن منشأها ليس دستورياً انتهى بإشكالات وخلافات سياسية. يترتب على ذلك أن الحل المتاح الآن لابد أن يبدأ بخطوة سياسية. ولذا ليس هناك معنى أو مبرر لمحاولات "حماس" تفادي الحوار أولا، ثم رفض خيار انتخابات رئاسية وبرلمانية متزامنة. ليس معنى هذا أن "حماس" تتحمل وحدها وزر كل ما حصل، لكنه يعني أن لا حاجة لأحد في مثل هذه الظروف لمماحكات ومناكفات دستورية لا طائل من ورائها.
من الناحية الدستورية يمكن القول إنه لم يكن يجوز للرئيس محمود عباس تعيين حكومة تصريف أعمال غير حكومة إسماعيل هنية من "حماس"، بعد قراره إقالة الحكومة الأخيرة. لكن من الناحية الدستورية أيضاً لم يكن من الجائز لـ"حماس" الاستيلاء على السلطة في غزة بواسطة انقلاب عسكري. ومن حيث أن تصرف أبومازن جاء في أعقاب تحرك "حماس"، تلاشى الأساس الدستوري المفترض للإبقاء على الحكومة المقالة كحكومة تصريف أعمال إلى أن يصبح من الممكن تشكيل حكومة بديلة تحظى بثقة المجلس التشريعي. والحقيقة أن تطورات الأحداث تجاوزت ذلك كثيراً. ولأن الأزمة في أصلها وفصلها أزمة سياسية، ومنشؤها سياسي بامتياز، أو تضارب المصالح السياسية لكل من "فتح" و"حماس"، تداخلت معها عوامل ومصالح سياسية خارجية، وعربية بشكل خاص، من خلال طرفي الأزمة. وبذلك أصبحت أزمة مركبة، بما قد لا يسمح لاحقاً لأي من طرفيها الفلسطينيين بالسيطرة على كل ملابساتها وتداعياتها اللاحقة.
بدأت الأزمة في التصاعد مع فوز "حماس" بالانتخابات التشريعية قبل حوالي عامين، وهو فوز لم تتقبله "فتح". عندها انزلقت الخلافات إلى صدامات مسلحة بين الطرفين. استحكمت الأزمة عندما وقعت "حماس" في فخ الانقلاب في غزة بقوة السلاح. هذه الخطوة خلفت انطباعاً بأن "حماس" لا تمثل توجهاً سياسياً جديداً، بل تنظيماً سياسياً عسكرياً يعيد، تحت غطاء شعار المقاومة، إنتاج السياسة العربية التقليدية التي تقوم على مشروعية الاستيلاء على السلطة بقوة السلاح، وليس بقوة الدستور. ربما أن تسارع الأحداث ما بين فوز "حماس" في الانتخابات وبين الانقلاب، كان تطوراً طبيعياً. لكن يبقى أنه ليست هناك حاجة للفذلكة الآن، والجدل حول أي من طرفي الأزمة أكثر التزاماً بمواد الدستور. فبعد الانقلاب دخلت الأزمة، ومعها السلطة الفلسطينية، بطرفيها "حماس" و"فتح"، وضعاً استثنائياً. هل كان يحق للرئيس أبو مازن أن يعين حكومة تصريف أعمال؟ هذا سؤال أصبح خارج السياق. استثنائية الوضع، مع ما يحبل به في هذه الحالة من مخاطر كبيرة على القضية الفلسطينية، يفرض أن تكون الخطوة الأولى للعودة بالأزمة إلى إطارها الدستوري قبول الطرفين تحقيق توافق سياسي بينهما كبداية للحل. والطريق الوحيد لذلك هو التوافق على أنه لا بديل الآن عن اللجوء إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية معاً للخروج من المأزق. "فتح" و"حماس" غير قادرتين على تقديم التنازل المطلوب لتسهيل الحل من دون انتخابات، لأن كليهما محكوم برؤيته ومصلحته السياسية قبل كل شيء. ومن هنا لابد من العودة إلى الشعب لحسم الموقف من خلال صوت الناخب الفلسطيني لتوفير المخرج المطلوب.
ترفض "حماس" هذا الخيار لأنها ترى فيه افتئات على حقها الدستوري. فترة حكمها لا تنتهي إلا بعد سنة من الآن، في حين أن ولاية الرئيس محمود عباس، كرئيس للسلطة، تنتهي في التاسع من يناير القادم. وهي تصر على أن من حقها أن تكمل ولايتها الدستورية كما أكمل أبو مازن ولايته الرئاسية. ربما أن "حماس" محقة في ذلك، لكن في الظروف الحالية هذه مجادلة، أو بالأصح مماحكة دستورية. فإذا كانت الأزمة الآن ليست دستورية، بل أزمة سياسية وصلت إلى طريق مسدود وخطير، ودخلت وضعاً استثنائياً، فإنه لا معنى للتعامل معها على أنها غير ذلك. ثم إن تجميد الأزمة حتى تكمل "حماس" ولايتها الدستورية يعطي أبو مازن الحق في تمديد ولايته سنة إضافية. وكل ذلك يمثل سوابق ليست في صالح المستقبل السياسي الفلسطيني. ثالثاً التوافق الزمني بين وصول الأزمة إلى ذروتها مع اقتراب نهاية ولاية الرئيس، وقبل انتهاء ولاية حكومة "حماس" بسنة أو أكثر، حصل بالصدفة، وكنتيجة طبيعية للتطورات التي اتخذتها الأزمة منذ بدايتها وإلى الآن. رابعاً أن الانتخابات توفر مخرجاً عادلا لكل الأطراف. ولتأمين ذلك لابد أن تكون الانتخابات في كل الأراضي الفلسطينية، وأن تخضع لإشراف محايد محلي ودولي، يتسم بالمصداقية، ويحظى بثقة الأطراف الفلسطينية المترشحة لهذه الانتخابات. خامساً أن إصرار "حماس" على رفض خيار الانتخابات كمخرج قد يفهم أنه يعكس شعوراً بالضعف السياسي، وعدم الثقة بأنها سوف تربح الانتخابات. والأرجح أن استمرار "حماس" على هذا الموقف سوف يضعها على المدى القريب أمام خيارين: إما اللجوء إلى القوة العسكرية لحسم الموقف لصالحها في الضفة كما في غزة، وإما الاستمرار تحت الحصار، وزيادة عزلتها الدولية والإقليمية، وهو أمر قد يؤدي إلى تراجع رصيدها السياسي. وعندما تأتي الانتخابات في الموعد الذي تراه هي قد تخسرها من حيث لا تتوقع. لأنها حينذاك ستبدو كقوة سياسية لم تكن قادرة على فك الحصار، ولا على المضي في خيار الانتخابات المبكرة للخروج من الأزمة، وفي الوقت نفسه لم تكن قادرة على تحقيق الحسم العسكري لوضع حد للأزمة، أو أنها لم تتجرأ على السير في هذا الطريق.
ربما ينبغي مراجعة خيار الحسم العسكري مرة أخرى بالنسبة لـ"حماس". هل هذا خيار متاح، وممكن؟ نجاح "حماس" في تنفيذ انقلاب غزة يدل بلا أدنى شك على ما وصلت إليه الحركة من قوة عسكرية وسياسية في مواجهة "فتح"، على الأقل في القطاع. لكن هل تتمتع "حماس" بالقوة نفسها أو قريب منها في الضفة حالياً؟ الشائع هو أنه لو اختارت "حماس" الآن حسم الموقف عسكرياً هناك الأرجح أنها قد تتمكن من تحقيق ذلك. لكن إذا كان هذا صحيحاً، هل تقبل مصر بمثل هذه الخطوة؟ وهل تقبل الأردن، دع عنك إسرائيل؟ بل هل تقبل الفصائل الفلسطينية الأخرى بترك "حماس" تحسم الموقف لصالحها على هذا النحو، وضداً على مصالح الجميع؟ ربما قيل إن "حماس" لن تلجأ إلى مثل هذا الخيار إلا بعد التفاهم والترتيب مع بعض الفصائل، مثل "الجهاد". لكن من الذي سيقف مع "حماس"، ومن سيرفض الوقوف معها؟ السبيل الوحيد أمام "حماس" فيما لو اختارت الحسم العسكري هو أن تملك الإمكانيات العسكرية واللوجستية التي تمكنها من تحقيق انتصار كاسح وسريع على "فتح" في الضفة وغزة لا يترك مجالا لتدخلات خارجية أو محلية، ويفرض أمراً واقعاً على الجميع يجعل أنه لا مناص من الاعتراف به، ومن التعامل معه على أساس من معطيات وتوازنات جديدة على الساحة الفلسطينية. وهذا أمر مشكوك فيه على أقل التقديرات.
وفي كل الحالات الخيار العسكري مكلف جداً، إنسانياً وسياسياً. لأنه يعني دخول القضية الفلسطينية نفق الصراع الداخلي. وهو صراع سيكون مريراً، ونفق سيكون الخروج منه صعبا جداً في ضوء الأوضاع المحلية والإقليمية السائدة. الأسوأ أن تعمق صراع الفلسطينيين فيما بينهم إلى هذا الحد، يجعل القضية تبدو دولياً، بل وربما عربياً، قضية فلسطينية -فلسطينية قبل أن تكون قضية شعب تحت الاحتلال. وعندها ستضاف عقبة أخرى لابد من تجاوزها أولا قبل الحديث عن مفاوضات، وعن شروط الحل النهائي لها. وهنا تتبدى صورة المأزق الفلسطيني: خيار "فتح" للتفاوض يتعثر لأسباب لا تتعلق كلها بـ"فتح"، وخيار "حماس" للمقاومة مهدد بالإنزلاق نحو اقتتال داخلي، أيضاً لأسباب لا تتعلق كلها بـ"حماس". وبدلا من أن يكون التفاوض هو البرنامج السياسي للمقاومة، جعلت غرابة المشهد الفلسطيني من "المقاومة" و"المفاوضات" شعارين لخصومة مستعصية في الداخل على مرأى من العدو. وإذا كانت الحاجة الماسة إلى الحكمة تبرز عندما يستحكم المأزق، فإن التضحية هي أهم وأقوى صيغ الحكمة.