العراق ومشكلات ما بعد الاتفاقية الأمنية
على الرغم من أن التوقيع على "اتفاقية وضع القوات" من قبل وزير الخارجية العراقي "هوشيار زيباري" والسفير الأميركي لدى العراق "رايان كوكر" يعد خطوة ذات دلالة، فيما يتعلق باسترداد العراق لسيادته، فإن هناك عقبات كثيرة اعترض تلك الاتفاقية. فبعد مرور ستة أعوام تقريباً على غزو الولايات المتحدة للعراق، يتم الآن الاتفاق على انسحاب القوات المسلحة الأميركية من جميع المدن والقرى العراقية في موعد لا يتجاوز الثلاثين من يونيو 2009، على أن تنسحب تلك القوات بأكملها من كافة الأراضي العراقية في موعد أقصاه الحادي والثلاثون من ديسمبر 2011، حسب نص المادة 24 من الاتفاقية المذكورة.
هكذا، يتكشف أمامنا من خلال قراءة بنود تلك الاتفاقية، أن الولايات المتحدة لن تكون قادرة على استبقاء قواعد عسكرية لأمد طويل في العراق، كما كان يأمل بعض أعضاء إدارة بوش المنصرفة وخططوا له بالفعل إبان الغزو.
وإذا ما أخذنا موقف اثنين فقط من أعضاء تلك الإدارة وهما نائب الرئيس "ديك تشيني" ونائب وزير الدفاع "بول وولفوفيتز"، فسوف نجد أن هذين الاثنان كانا يعتقدان ـ كما كان معروفاًـ أنه من الممكن ضم العراق إلى منطقة النفوذ الأميركي.
كان الاثنان يعتقدان أن العراق سوف يوفر منصة تمكن القوات المسلحة الأميركية من الانطلاق منها إلى الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، كما توفر للولايات المتحدة مدخلاً متميزاً لاحتياطات العراق النفطية، التي يعتقد أنها ثاني أكبر احتياطات في العالم بعد المملكة العربية السعودية. ما تبين الآن هو أن هذه الآمال كانت جوفاء، وأن الحرب في العراق كانت كارثية، وأدت إلى خسائر ضخمة في صفوف المدنيين، كما أدت أيضاً إلى دمار مادي هائل، وإجبار ما يقرب من خمسة ملايين عراقي على النزوح من ديارهم. والتكلفة الباهظة لتلك الحرب لم تقتصر على العراق فحسب، وإنما كانت مكلفة للغاية الولايات المتحدة الأميركية، في الأرواح، والعتاد، والمال، كما ألحقت العار بإدارة بوش، و"المحافظين الجدد" الذين صاغوا سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
مع ذلك، تتحدث مقدمة تلك الاتفاقية عن قيام الولايات المتحدة والعراق "بتعزيز أمنهما المشترك... من خلال محاربة الإرهاب في العراق، والتعاون في المجالات الأمنية والدفاعية...".
يؤشر هذا ضمناً إلى أنه لا يمكن استبعاد وجود شكل ما من أشكال العلاقات الأمنية بين الولايات المتحدة والعراق. وبالفعل، صوت البرلمان العراقي على الاتفاقية يوم الخميس الماضي، وذلك على الرغم من المعارضة الشرسة من قبل التيار "الصدري"، الذي قام أنصاره بمظاهرات ضخمة في بغداد يوم الجمعة قبل الماضي، كما أن هناك تحفظاً شديداً تجاهها من قبل إياد علاوي، وحزب "الجبهة العراقية الموحدة" وجبهة" التوافق العراقية السنية.
وهناك مساومات عديدة سبقت التصويت على تلك الاتفاقية، بيد أن التأييد الذي حظيت به من حزب "الدعوة"، و"المجلس الأعلى للثورة الإسلامية" في العراق، وبعض الحلفاء الأكراد، كان كفيلاً بضمان التصويت بالموافقة عليها. وبعد التصويت في البرلمان، من المقرر أن تعرض تلك الاتفاقية على مجلس الرئاسة العراقي المكون من ثلاثة أعضاء للحصول على موافقته.
سيبقى بعد ذلك الانتظار لرؤية ما إذا كان الرئيس المنتخب باراك أوباما سوف يوافق على بنود الاتفاقية كما هي عليه، عندما يتولى مهام منصبه بصفة رسمية في العشرين من شهر يناير القادم، أم أنه سيسعى إلى سحب القوات المسلحة الأميركية بالكامل في موعد أبكر من المنصوص عليه في الاتفاقية أي خلال 16 شهراً الأولى من توليه الحكم، كما وعد هو نفسه إبان حملته الانتخابية.
وإذا كان موضوع الوجود الأميركي في العراق قد وجد طريقه إلى الحل -كما يبدوـ فإن هناك مشكلات أخرى رئيسية لا تزال قائمة دون حل: فالساسة العراقيون المتنازعون قرروا إعادة تشكيل بلادهم على النمط الفيدرالي، وليس على أساس نمط الدولة الموحدة. والسؤال هنا هو: ما نوع الاتحاد الفيدرالي الذي سيتم تطبيقه؟ وما هو مقدار اللامركزية فيه؟ وما هي الصلاحيات التي سيتم منحها للمناطق المختلفة؟
وهناك موضوع آخر ينتظر أن يكون محلاً للتجاذب وهو موضوع مستقبل منطقة كركوك الغنية بالنفط، التي تطالب بها حكومة كردستان المؤقتة، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى زيادة التوتر القائم بين العرب والأكراد.
في الأسبوع الماضي، اتهمت صحيفة "الاتحاد الوطني الكردستاني" رئيس الوزراء نوري المالكي بأنه قد أسس مليشيات خاصة قائمة على أساس قبلي تعرف باسم "إسناد" أو "مجالس الإسناد"، كي تعمل كأداة شخصية لتعزيز سلطته ولإخافة الأكراد. في إحدى فقرات ذلك المقال، تساءلت الصحيفة بأسلوب ساخر: "هل يستطيع أحد أن يدلنا على الفارق بين جيش القدس الذي كان تابعاً لصدام حسين، وبين مجالس الإسناد التابعة لرئيس الوزراء نوري المالكي"؟
ومن المشكلات الأخرى المعلقة، تلك الخاصة بعلاقة العراق بالجيران المهمين مثل إيران وتركيا. فإيران تريد أن تتأكد من أن عراق المستقبل لن يشكل أبداً تهديداً خطيراً لها مثل ذلك الذي كان يشكله عراق صدام حسين. لهذا السبب، تفضل طهران قيام عراق فيدرالي، ضعيف نسبياً، تحت قيادة شيعية.
أما تركيا فتفضل -على النقيض من ذلك- عراقاً موحداً قوياً لديه القدرة على لعب دور قوة التوازن الإقليمي أمام إيران، وعلى كبح جماح الميول الكردية الانفصالية في العراق نفسه. إلى ذلك، ترغب أنقرة أيضاً في الحصول على دعم بغداد في السيطرة على أنشطة حزب العمال الكردستاني الثوري "بي.كيه.كيه"، الذي يستخدم العمليات الإرهابية العابرة للحدود وسيلة لتحقيق هدفه، وهو إنشاء دولة كردية مستقلة في تركيا.
المشكلة الأكبر التي تواجه الحكومة العراقية، هي الكيفية التي يمكن بها إعادة العراقيين المهاجرين في الخارج، وكذلك الذين نزحوا من ديارهم داخلياً ـوالذين يصل عددهم إلى قرابة خمسة ملايين في المجملـ ثم إعادة تأهيلهم. فضلاً عن ذلك كله، سيؤدي انخفاض سعر البترول إلى ما دون مستوى الخمسين دولاراً للبرميل إلى ضغط شديد على الميزانية الحكومية، مما يجعل تنفيذ المهام الملقاة على عاتقها أمراً أكثر صعوبة بكثير.