تَراجع الديمقراطية في الغرب وتحديداً في فرنسا، وانحسار القيم الدينية في المجتمع، والتأثير السلبي للسياسات الاقتصادية المتبعة مثل التجارة الحرة وما ينتج عنها من عولمة اقتصادية كاسحة، ثم تضعضع التماسك المجتمعي، ليضاف إلى ذلك انتخاب الفرنسيين لرجل "غير قادر على ممارسة السلطة"، بل يجسد التحالف بين اليمين الليبرالي واليسار الوصولي، هذه هي أهم الأفكار التي يطرحها المفكر والكاتب الفرنسي "إيمانويل تود" في كتابه الأخير الذي نعرضه اليوم، وعنوانه "ما بعد الديمقراطية". والكاتب ليس غريباً عن الساحة الثقافية الفرنسية، حيث اشتهر بتحليلاته للواقع الدولي وتوقعاته المستقبلية الدقيقة، وكان من بين الأوائل الذين تنبأوا في عام 1975 بسقوط الإمبراطورية السوفييتية لقصور ذاتي استطاع الكاتب رصده قبل الآخرين، وهو أيضاً منهمك في قراءة المتغيرات العالمية الراهنة بعين الخبير الذي يمتح من تخصصات أكاديمية متنوعة تتوزع بين علم الاجتماع والأنثروبولوجيا والاقتصاد ليخلص إلى أن سنوات الهيمنة الأميركية على العالم وتربعها كقوة وحيدة على عرشه باتت معدودة. وبالنسبة للكاتب لم تكن عملية انتخاب نيكولا ساركوزي على رأس الدولة الفرنسية سوى إشارة من الإشارات الدالة على تراجع قيم المساواة الراسخة في الثقافة السياسية للأمة الفرنسية التي هي بدورها نتاج ما يسميه فقدان الوعي الجماعي لدى الطبقات الوسطى، ونتاج التأثير السلبي للسياسات الاقتصادية القائمة على التبادل التجاري الحر وغير المنضبط؛ تلك السياسات التي تصب في مصلحة شريحة معولمة من المجتمع تبقى في جميع الأحوال ضيقة ومحدودة. وبعد طرحه لمقولته هذه التي يلمس من خلالها تراجع القيم الديمقراطية على حساب قيم السوق المكرسة بدورها للتراجع الديمقراطي في حلقة مفرغة ومستمرة، ينتقل المؤلف إلى تحليل واستنطاق الفرضية التي تنتقد التحولات الجارية في المجتمع الفرنسي سواء على الصعيد الثقافي، أو السياسي، أو حتى الاقتصادي. فحسب الكتاب يرجع الاختفاء التدريجي للوعي الجماعي الضامن لتماسك المجتمع إلى ظاهرة من شقين: أولا فقدان الشعور الديني، أو الإيمان بصفة عامة سواء كان دينياً متمثلا في الروح الأصيلة للمسيحية، أو كان التزاماً أيديولوجياً، لاسيما الالتزام بالمفهوم الماركسي. وفي مقابل هذا التراجع يرصد الكاتب صعوداً متزامناً لنرجسية الطبقة الوسطى الجديدة المتخرجة من الجامعات والمعاهد العليا التي يعتبرها المؤلف "منشغلة بنفسها ومنفصلة عن الدين والأيديولجيا ومهجوسة بكل ما هو جسدي وحسي وجمالي..."، هذه الطبقة الجديدة يعبر عنها بوضوح انتخاب ساركوزي رئيساً لفرنسا. لذا يهاجم الكاتب من يعتبرهم المسؤولين الأساسيين عن الكارثة الاقتصادية والاجتماعية التي تكاد تطبق على المجتمع الفرنسي، وهي الطبقة المتعولمة المستفيدة من سياسة التجارة الحرة سواء من يسمون أنفسهم الاجتماعيين الديمقراطيين، أو الليبراليين الجدد وذلك بالنظر إلى التماهي في السياسات وانجرار اليسار وراء المقولات الليبرالية بعدما تخلى عن مبادئه المؤسسة. هذه الطبقة التي يرى "تود" أنها انحرفت عن السياق المجتمعي العام وباتت منكفئة على نفسها وعاجزة عن التواصل مع الجماهير إلا فيما يرتبط بحشد التأييد وتعبئة الأصوات لمرشحها المفضل في الانتخابات. ويحذر المؤلف من أن التراجع القيمي الشامل في المجتمع الفرنسي قد يفضي في النهاية إلى حصر الديمقرطية في قوالب إثنية ضيقة وتجاهل المكونات المتنوعة للهوية الفرنسية، لاسيما في حال استمرت المشاكل الاقتصادية التي تولد ردود أفعال عنيفة أحياناً على غرار ما شهدته الضواحي الفرنسية قبل عامين، الشيء الذي قد يشجع على إقصاء فئات واسعة من المجتمع وحرمانها من التعبير الديمقراطي. ولتفادي هذه الآفاق المعتمة يرى "تود" أنه لا سبيل إلى إنقاذ الفكرة الديمقراطية في فرنسا ما لم يُصر إلى إعادة النظر في قواعدها الحالية التي يمثلها تحالف نخبة سياسية غير مؤدلجة، وبين الرأسمال المتحكم في العملية الاقتصادية بعد انحرافها عن الإنتاج الحقيقي وانجرافها وراء المضاربة المالية. ولن يتم ذلك في نظر الكاتب إلا بإعادة تعريف الفضاء الاقتصادي الأوروبي بحمايته أولا من هجمة البضائع الأجنبية، ثم بمعالجة النقص الحاصل في الطلب على الاستهلاك والاهتمام أكثر بمسألة الأجور المتدنية لدى قطاعات واسعة من العمال وتضييق الفوارق الطبقية. وفيما يتعلق بالهوية الفرنسية التي يخصص لها المؤلف حيزاً مهماً من كتابه فإنه يُرجع تصدعاتها أيضاً، لاسيما موضوع الهجرة الذي يخيف بعض الشرائح والقوى السياسية، إلى اختلال القاعدة الاقتصادية لدى فئات المهاجرين الذين يعانون من البطالة والتهميش أكثر من غيرهم، ليعيد الكاتب صياغة الهوية الفرنسية على أساس ثقافي محض يحتفي بقيم العلمانية المشتركة على حساب المكونات العرقية للمجتمع. وأخيراً يبدو أن إيمانويل تود من خلال تحليله للوضع الفرنسي على المستويين السياسي والمجتمعي، يركز على دور العامل الاقتصادي في إحداث ما يعتبره تغييرات جوهرية تطال المجتمع الفرنسي. وسواء تعلق الأمر بتراجع منسوب الديمقراطية الفرنسية التي تحولت إلى مجرد معارك انتخابية فاقدة للزخم الأيديولوجي، أو بتململ الفئات المكونة للمجتمع فإن المسؤولية عند المؤلف تكمن أولا وأخيراً في الاختلالات الاقتصادية الكبرى التي من تداعيتها الملموسة الأزمة المالية الحالية. زهير الكساب الكتاب: ما بعد الديمقراطية المؤلف: إيمانويل تود الناشر: جاليمار تاريخ النشر: 2008