في بعض الأحيان، ربما تكتسب كل من العملية وموضوعها، القدر ذاته من الأهمية في المجال الدبلوماسي. ضمن ذلك، قد تبدو بعض الأفكار المقبولة أو مما يمكن التكيف والانسجام معه حين طرحه على نحو ما، غير مقبولة ومعترض عليها تماما في حال عرضها بطريقة أخرى مغايرة. ربما يعين هذا في تفسير ردة الفعل التي أثارتها تصريحات الرئيس بوش يوم الأربعاء الماضي، حول احتمال موافقة الولايات المتحدة الأميركية على خطط رئيس الوزراء الإسرائيلي إرييل شارون، الخاصة بالانسحاب أحادي الجانب من الضفة الغربية وقطاع غزة. ونتيجة لعجزه عن إشراك الفلسطينيين في مفاوضات الحل، فقد أثار بوش غضبهم بالتأكيد.
لكن السؤال الذي لا يزال مطروحا هو: هل أحدث بوش تغييرا جوهريا وأساسيا، على خطط واشنطن الخاصة بالسلام كما يقول الفلسطينيون الآن؟ هل تخلى بوش عن الدور القيادي للولايات المتحدة الأميركية، بوصفها وسيطا نزيها يعول عليه في حل النزاع، نتيجة لانحيازه الصارخ إلى جانب إسرائيل؟ وهل قطع بوش الطريق وأغلق الباب مسبقا أمام أية مفاوضات إسرائيلية- فلسطينية محتملة في المستقبل، نتيجة لإقراره بالنتيجة سلفا؟ من وجهة نظري الشخصية، فإن الإجابة على جميع هذه الأسئلة هي النفي. بإلقائنا نظر ة فاحصة على ما لا يزال يلتزم به الرئيس بوش، سوف نلحظ أنه لم يقدم على قفل الطريق أمام المفاوضات المستقبلية بين الجانبين، ولا هو قرر نتائجها سلفا كما قيل. صحيح أن الرئيس بوش وافق خطيا على أنه لا يتعين على شارون أن ينسحب كليا إلى الحدود التي رسمتها هدنة عام 1949، وأنه يمكن السماح له بالاحتفاظ بسيادته على بعض مواقع تجمعات المستوطنين في الضفة الغربية. إلا أن تلك الموافقة لازمها إعلان صريح لا لبس فيه من جانب بوش، مؤداه أن التوصل إلى اتفاق الوضع النهائي، لن يكون ممكنا إلا بموافقة الطرفين- الإسرائيلي والفلسطيني- عليه. وقال إن مثل هذا الاتفاق الثنائي هو الذي يعكس التغييرات الواقعية الملموسة على الأرض. ويعني هذا بعبارة أخرى، أنه ربما يكون لواشنطن دور وكلمة في حل النزاع الجاري بين الطرفين، غير أن هذا الدور، لا يعني بأية حال أنه في الإمكان ترسيم حدود نهائية فاصلة بين الطرفين، دون مشاركة الجانب الفلسطيني، والحصول على موافقته عليها. ولا تزال أمام الفلسطينيين الفرصة للإلحاح على عقد وإبرام الاتفاقيات، بما في ذلك حق المطالبة بتعويضات حدودية، في طريق الوصول إلى اتفاق مرضي بالنسبة إليهم.
بالقدر ذاته، فقد أعرب الرئيس بوش عن رأيه أن أي حل عادل واقعي ونزيه للنزاع، سوف يتطلب أن تتم إعادة توطين اللاجئين الفلسطينيين داخل حدود الدولة الفلسطينية، وليس داخل حدود إسرائيل. لكنه لم يشر مطلقا إلى حرمان الفلسطينيين من الحق في التفاوض حول هذا الأمر. وفي الواقع فإن الصراحة التي تحدث بها بوش عن هذه القضايا، إنما هي انعكاس لما يقره الجانبان وغيرهما سرا. علاوة على ذلك، فإن تصريحاته تعكس رؤية أميركية حول الوجهة العامة التي يجب أن تتجه نحوها المفاوضات اللاحقة بين الطرفين. وهي تشبه إلى حد كبير دعوة بوش السابقة لإقامة دولة فلسطينية مستقلة، علما بأنها سياسة أميركية غير مسبوق إليها من قبل أي من الإدارات السابقة. ولا تزال لدى بوش القناعة باستحالة التوصل إلى حل نهائي للنزاع، دون الإعلان عن قيام مثل هذه الدولة.
وعليه، فإن كانت أمام الفلسطينيين كل هذه المساحة للتفاوض، فعلام هم غاضبون إذاً؟ والإجابة هي أن ما أثار غضب الفلسطينيين وحنقهم، هو الشعور بعزلهم واستبعادهم من العملية الأخيرة. وهم محقون في شعورهم، ولا يستطيع أي كان لومهم عليه. فقد جرت الاتفاقات الأميركية- الإسرائيلية الأخيرة، دون أية مشاركة للفلسطينيين فيها. ولعل الخطط الخاصة بكيفية استفادة الفلسطينيين من انسحاب شارون من أراضي الضفة الغربية، كانت تثير حماسهم وتجد استجابة إيجابية من جانبهم، لكونها تمس مصلحتهم على نحو مباشر. وربما تكون للفلسطينيين هواجسهم وتحفظاتهم، إلا أنه كان ممكنا لقيادتهم- في حال إشراكها في المحادثات الأخيرة التي جرت بين بوش وشارون- أن تثير تلك التحفظات، وتطالب بتوضيحات للجوانب الغامضة من الاتفاق، فضلا عن مطالبة الرئيس بوش، بتأكيدات على أن واشنطن لا تزال على التزامها بكونها طرفا نزيها ومحايدا، في عملية تحقيق الحلم الفلسطيني بإقامة الدولة المستقلة عبر الاتفاقات والمفاوضات.
لو أن خطوة كتلك قد تحققت، لسهل الانتقال من هذه النقطة إلى نقطة أخرى من عملية الحل. كما أن الاعتماد على المبادرة التي قدمها شارون يعتبر أمرا ضروريا ومهما. فقد ظللنا خلال الثلاث سنوات الأخيرة الماضية، نراوح في المكان نفسه، حيث المسرح الدامي، وأحداث العنف المتبادلة بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني. ولم تكن هناك عملية سلام من أي نوع كان، عدا لغة المواجهة والعنف. أقل ما تقدمه مبادرة شارون الأخيرة هذه إذاً، أنها تكسر حالة الجمود الطاغية على المسرح السياسي بين الجانبين. وبموجب الانسحاب الإسرائيلي من قطاع