تحديث الثقافة العربية
كان موضوع تحديث الخطة الاستراتيجية للثقافة العربية محوراً رئيساً لاجتماعات مؤتمر وزراء الثقافة العرب الذي انعقد في دمشق يومي 16 و17 من شهر أكتوبر 2008، وكانت دولة الكويت الشقيقة قد نهضت بمسؤولية وضع الخطة التي شارك في بنائها كبار الباحثين العرب، وأرست المبادئ الرئيسة لتوجهات الثقافة العربية وقد تم إقرارها في مؤتمر وزراء الثقافة العرب الخامس الذي انعقد في تونس عام 1985. ولكن المستجدات والتغيرات الكبرى التي شهدها العالم مع نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، فرضت على الثقافة العربية أنماطاً جديدة من التحديات لم تكن موجودة، فقد انهار الاتحاد السوفييتي واختل التوازن الدولي، وبرزت قوة القطب الواحد، وغابت الديمقراطية الدولية، وظهرت رؤية جديدة للعالم منذ مطلع التسعينيات مع ظهور ما سمي النظام الدولي الجديد، وهو يعتمد سياسة القوة وحدها، ويفرض عولمة رأسمالية متوحشة تكاد تلتهم الأمم والشعوب الضعيفة وتحولها إلى توابع مهمشة تضع كل ثرواتها وإمكاناتها في خدمة سياسة المحافظين الجدد الذين ابتلوا البشرية بسلسلة من الحروب بدأت في أفغانستان وانتقلت إلى العراق. وقد أعلن رامسفيلد أنهم يريدون إشعال الحروب في ستين بلداً في العالم، وكان واضحاً لنا أن هذا الرقم يشير تقريباً إلى عدد الدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي، لأن المحافظين الجدد وهم يمثلون النسخة الجديدة من الصهيونية العالمية لم يخفوا عداءهم للإسلام، بل إن منظريهم ومفكريهم أعلنوا حقدهم على العرب والمسلمين، وحمّلوهم مسؤولية تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر دون أي تحقيق دولي قانوني يدينهم. وكان هدفهم إيجاد ذريعة يقنعون شعوبهم بها للمضي في خطتهم العدوانية على العرب والمسلمين، وقد بدأوا يتذكرون الحروب الصليبية ويستلهمونها لتهيئة المجتمعات الغربية لخوض حروب جديدة ضد البلاد العربية والإسلامية. وكانت إسرائيل تنفث في المجتمع الغربي سموم فكرها العنصري لنشر الكراهية ضد العرب وإثارة المخاوف من الحضور الإسلامي في العالم، ولاسيما بعد أن ظهرت قوة الإسلام طاقة روحية ضخمة تمد الشعوب العربية بدوافع المقاومة والتضحية.
ولسوء الحظ وضعف التخطيط لا يملك العرب في الغرب منابر ثقافية لصد الهجمات الفكرية التي تشهر بهم وتسيء إلى عقائدهم ومبادئهم، بل إن الاختراق الفكري والثقافي صار مهدداً لهم في عقر دارهم حين تسلل إلى الأمة هذا الفكر "النيوليبرالي" المخادع بأقنعة تبشر بالديمقراطية وتمكين المرأة العربية، والدفاع عن حقوق الإنسان، بينما هو في حقيقته فكر عنصري يحاول أن يبرر جرائمه الإرهابية الكبرى في العراق وفلسطين وأفغانستان ليوهم العالم بأنها دفاع عن الديمقراطية ومقاومة للإرهاب. ويحاول أن يقنع العرب بأن ثقافتهم الإسلامية تقدس العنف وتدعو إلى العدوان، وقد تسللت إلى الثقافة العربية كوارث فكر ظلامي ما زلت أوقن أنه مبرمج ومدفوع الثمن، يقدم الإسلام بصورة التشدد البغيضة والتطرف الكريه، وكانت العمليات الإرهابية التي يقترفها مجرمون في العالم تلصق على وجه الإسلام كي تشوه صورته وتقرن اسمه أمام العالم بالقتل والعدوان. وقد شارك في تشويه صورة العرب والمسلمين بعض الجهلاء أو المدفوعين عبر تصرفات لا يقبلها الإسلام السمح، وعبر أفكار لم تعرفها الثقافة العربية والإسلامية في تاريخها الحضاري الكبير.
وكان لابد من أن تنهض الثقافة العربية بمسؤوليتها للبحث عن رؤية جديدة لمستقبل الثقافة العربية وسط هذا الخضم من المتغيرات والمستجدات وبعضها إيجابي مثل ثورة الاتصالات والمعلوماتية وأمام الإحساس بالخطر من الوقوع في تخلف علمي مريع يجعل اللحاق بتقنيات العصر صعباً، لذلك سارع وزراء الثقافة العرب في مؤتمرهم الخامس عشر في مسقط لاتخاذ قرار باعتماد تحديث الخطة الشاملة للثقافة العربية موضوعاً رئيساً للمؤتمر السادس عشر الذي انعقد في دمشق، وناقش ما تم إنجازه بعد سلسلة من الأبحاث والدراسات التي وضعها الخبراء عبر لقاءاتهم في الكويت ثم في بيروت.
وتلحظ الرؤية المحدثة ما تم بحثه في لقاءات متعددة للخبراء كانوا قد وضعوا فيها خطة للنهوض بالتصنيع الثقافي وإنشاء سوق ثقافية عربية (الرياض عام 2000)، وخطة عمل للسياسات الثقافية من أجل التنمية (عمان 2002)، وخطة للحفاظ على الهوية الثقافية (فلسطين نموذجاً) صنعاء 2004، ورؤية للثقافة العربية في مجتمع المعلومات، مسقط 2006. وتنظر الخطة المحدثة المقترحة إلى أن النهضة المنشودة هي تحول حضاري وليست مجرد إصلاح أو ترقيع، وهذا ما يدعوها إلى أن تستمد رؤيتها من نقد صادق وجريء للواقع، وتعرف دقيق إلى طبيعة التحديات وإلى أسباب النكوص، ومن ثم فإن الخطة لا ترفض العصر، بل تدعو إلى التفاعل الإيجابي مع منجزاته، بدل تقليده أو الاكتفاء بالاستعارة الجزئية منه.
وتفيد الخطة من تجربة الحضارة العربية الإسلامية الكبرى، التي لم تتحقق إلا لكونها تفاعلت مع إنجازات البشرية وانفتحت عليها، ولم ترفض قيمها التي وجدتها صالحة للبقاء والاستمرار، بل اعتمدتها وأكدت عليها. ولقد قدمت حضارتنا تجربة علمية عقلية كانت من أسس النهضة الأوروبية، بنيت على البحث والاستقراء والتجريب، ولم تخلط بين المادي والروحي. وبالطبع تؤكد الخطة المحدثة على حرية الفكر والتعبير شرطاً للإبداع، وترى أن النهوض بمستقبل الثقافة العربية لا يتحقق إلا بالنهوض باللغة العربية واستعادة مكانتها في التعليم العالي دون أي إهمال لتعلم اللغات الأجنبية.
ولا تغفل الخطة عن النظر إلى العلاقة الوثيقة بين القانون والعولمة، وإلى اتجاه العالم نحو ما يسمى القوة اللينة، التي تجبر الشعوب على الخضوع للقوى الكبرى عبر اتفاقيات دولية مثل تلك التي تفرض قوانين التجارة العالمية (الجات مثلاًً) ومثل اتفاقيات حقوق الملكية الفكرية المتصلة بالتجارة.
وتعيد الخطة تعريف هويتنا الثقافية فتؤكد على كونها هوية متحركة لا ترفض العناصر الإيجابية المستجدة. وتدعو الخطة إلى دراسة التراث دراسة نقدية تستلهم ما فيه من عناصر حية ولاسيما ما تختزنه الفلسفة الإسلامية من كنوز معرفية، تأسست على قبول الآخر والنبذ المطلق للتعصب.
وتؤكد الخطة على أهمية الحوار مع الغرب من موقع ندِّي، وثمة فصل للحديث عن الثقافة العربية والعالم يتضمن جملة من عناصر البحث، أهمها موضوع الصراع العربي/ الإسرائيلي، والحذر من التطبيع الثقافي، ونشر ثقافة المقاومة، ثم موضوع المهاجرين العرب، وكيفية الإفادة من وجودهم في المجتمعات الغربية، وموضوع هجرة الأدمغة وكيفية استعادتها، ثم موضوع علاقة العرب بالمنظمات الدولية، ودراسة موقعهم في الاتفاقيات الدولية.
وتؤكد الدراسة في كل تفاصيلها على أهمية العمل الثقافي العربي المشترك، فلا حضور دولياً للثقافة العربية دون تكاتف وتعاون عربي، فالعالم كله يرى النتاج الثقافي العربي منسوباً إلى الأمة العربية كلها، وكل ما يقدمه المبدعون العرب هو ملك للثقافة العربية، وإضافة لها، ولا وجود لثقافات قُطرية ولكن هناك خصوصيات محلية تحقق التعددية والتنوع الثقافي الذي يشكل الثراء المنشود.
ولا أملك في هذه العجالة أن أقدم كل محتويات الخطة المحدثة، ولكنني حرصت على الإشارة إلى عناوينها الرئيسة، داعياً كل المثقفين العرب إلى المساهمة في نقاشها وإغنائها بأفكارهم ورؤيتهم. وقد حرصت كذلك مع زملائي الوزراء أعضاء المؤتمر على أن نؤجل إقرار هذه الخطة إلى المؤتمر القادم في الدوحة كي تتاح الفرصة لمزيد من البحث و الإغناء. وأحسب أن جملة من المتغيرات ستطرأ على المشهد الثقافي في العالم خلال الفترة القادمة، فالعالم كله ينشد التغيير، ولسوف نشهد إن شاء الله عودة للتوازن الدولي بعد أن ضاق العالم ذرعاً بسياسة القطب الأوحد.