الأزمة المالية... نحو حلول غير مؤدلجة
فيما يسعى الاقتصاديون والخبراء إلى فك خيوط الأزمة المالية والتعرف على الأسباب التي قادتنا إلى ما نحن عليه اليوم، فضلاً عن رسم خريطة طريق للمستقبل سواء على المدى القصير أو البعيد، نجد أنفسنا مرة أخرى محاطين بالثنائيات التي تدعونا للاختيار بين التهور والاستقامة المالية، وبين تشجيع رأسمال والانحياز إلى الطبقة العاملة، وبين تعزيز التجارة الحرة والميل إلى السياسات الحمائية. وهكذا يُعتقد على نطاق واسع أنه على الرئيس الأميركي الجديد الاختيار بين تلك الأقطاب واتباع طريق واحد وإدارة ظهره للآخر، لكن السؤال هو إلى أي مدى يمكن اعتبار تلك الاختلافات بين الخيارات حقيقية فعلاً؟ في رأينا، ونحن هنا ننحدر من مدرستين تحليليتين مختلفتين، أن تلك التقسيمات مغلوطة وتصرف الانتباه عن القضايا الأساسية بدل رسم خريطة واضحة للمستقبل. ولو بدأنا بالتقسيم الأول: الاستقامة المالية في مقابل التهور والمغامرة لعثرنا على الإجابة في الكتاب المقدس الذي قال ما معناه إن هناك وقتاً للإنفاق ووقتاً آخر للادخار، كما أن هناك وقتاً لمراكمة العجز ووقتاً آخر للخروج منه. ومع أن أحدنا (روبين) غالباً ما يرتبط اسمه بالدفاع عن الانضباط المالي، إلا أننا متفقان معاً على أن هناك وقتاً للانضباط المالي ووقتاً آخر للسخاء في الإنفاق.
وفي ظل الأزمة المالية الحالية نعتقد سوية أن اقتصادنا في حاجة أكثر، وبخاصة في المنظور القريب، إلى سخاء مالي وتحفيزات كبيرة تحرك عجلة الاقتصاد وتخلق طلباً مهماً يدفع بالنمو إلى الأمام، لكننا نرى أيضاً أن الإنفاق المالي يجب أن ترافقه قواعد مالية سليمة وبرامج تمتد لسنوات قادمة تشمل الاستثمار الحكومي بعد أن يسترجع الاقتصاد عافيته. ولا بد من التوضيح أن الاستمرار في العجز المالي على المدى الطويل مصحوباً بمعدل ادخار متدن وحقائب استثمارية أجنبية مقيمة بالدولار الأميركي يشكل خطراً على أسعار الفائدة والعملة الأميركية، ومن ثم على اقتصادنا في المستقبل. وللخروج من الأزمة نتفق معاً أن مصلحتنا الاقتصادية تستدعي الاستثمار الحكومي في القطاعات الأساسية والمهمة مثل التعليم والرعاية الصحية والطاقة وتدريب العمال وأشياء أخرى، وفي رأينا يتعين على الرئيس المقبل التقدم على مسارات متعددة والجمع بين الضوابط المالية من جهة وبين مواصلة الاستثمار الحكومي من جهة أخرى.
ولنتفق أولاً أن البرنامج الحكومي للإنقاذ المقدر بـ700 مليار دولار لدعم النظام المالي يقوم بالأساس على شراء الحكومة لأصول الشركات، إما من خلال الأسهم، أو شراء الديون من البنوك، لكن التكلفة التي ستتكبدها الحكومة لا تكمن في القيمة الظاهرية، بل في قيمة الدعم نفسه وتأثيره على أسعار المقتنيات الحكومية واحتمالات المخاطرة. أما الأمر الذي يتعين إدراكه، فهو مساهمة الاستثمارات الحكومية في تصويب بعض اختلالاتنا المالية، لاسيما استحقاقات الرعاية الصحية، ما يؤكد على أهمية إصلاح نظام التغطية الصحية في الولايات المتحدة وتعميمها على الأميركيين، ورغم التكلفة التي ستحتاجها هذه البرامج، إلا أنه ومن خلال سياسية مالية منضبطة تستطيع تلك البرامج توفير تمويل كافٍ للاستمرار وتحقيق أهدافها. ومن الأسئلة المهمة التي تطرح حالياً هو ما هي أهدافنا المالية فيما يتصل بعلاقة العجز بمعدل الدين الوطني وحصته من الناتج الإجمالي المحلي؟ إذ من المعروف أن نسب العجز العالية ستضيف إلى معدل الدين الوطني، كما أنه في مثل هذه الأوقات سيحافظ عجز الموازنة الذي يعادل تقريباً 2 في المائة من الناتج الإجمالي المحلي على استقرار هذا الأخير، وهو هدف مشروع يستحق أن نسعى إلى تحقيقه.
والحقيقة أنه فيما يتعلق بنسبة الضرائب على الدخل وأنواعها الأخرى لا نستطيع سوى الاتفاق على ضرورة الرجوع بها إلى مستوياتها السابقة في عهد كلينتون، وخاصة لمن يوجدون في القمة، ولا ننسى أن معدلات الضرائب في ذلك الوقت ساهمت في خفض معدل العجز في الموازنة ومولت الاستثمارات الحكومية التي قادت بدورها إلى أطول مرحلة ازدهار اقتصادي شهدته أميركا. وبانتقالنا إلى التقسيم الآخر بين رأسمال والعمل نجده أيضا مغلوطاً، ذلك أن الحيوية التي تميز بها سوق العمل الأميركي، بالإضافة إلى حرية رأسمال ساهما في زيادة نسبة الإنتاجية خلال السنوات الأخيرة، هذه الإنتاجية التي مع الأسف لم تستفد من مكاسبها شرائح واسعة من الطبقة العاملة في أميركا. فرغم ارتفاع معدل الإنتاجية إلى 20 في المائة بين العامين 2000 و2007، فإن دخل الطبقات الوسطى في سن العمل تراجع بمقدار ألفي دولار، أي بنسبة 3 في المائة. ومن العوامل التي أدت إلى هذه النتيجة تراجع القوة التفاوضية للعمال الناتجة بدورها عن انحسار دور النقابات العمالية في الولايات المتحدة وانخفاض عدد المنخرطين في صفوفها، والحال أن أي اقتصاد حديث يتعين عليه التوفر على سوق حقيقي للعمل يتفاوض في إطاره أرباب العمل والعمال بدرجة متساوية دون الحاجة إلى تغليب مصلحة أحدهما على الآخر.
أما فيما يتعلق بثنائية السوق الحرة والحمائية فإننا نعترف بوجود دروس مهمة يتعين استخلاصها من اختلالات النظام المالي، وبأن إصلاحات عاجلة باتت ضرورية بهدف تحقيق التوازن المطلوب بين حماية المستهلك والتقليل من مخاطر المجازفات المالية من جهة، وبين الحفاظ على مكتسبات نظام اقتصاد السوق من جهة أخرى. ونحن نعرف أيضاً العلاقة الوثيقة بين وول ستريت والشارع العام، بحيث تنعكس الأزمات في السوق المالي على حياة الأميركيين من خلال فقدانهم للوظائف وتراجع دخلهم وانخفاض مدخراتهم التقاعدية، لذا لا بد لأي إصلاح يروم تعزيز نظامنا المالي من أن يُقيم على أساس قدرته في توفير الوظائف وتحسين الدخل للعمال الأميركيين. وأخيراً نشير إلى أن الخيارات الخاطئة القائمة على أساس أيديولوجي حالت دون معالجتنا للقضايا المهمة على نحو فعال وسريع، بحيث يتعين على الرئيس القادم بذل كل ما يستطيع كي لا ينجر وراء الثنائيات الوهمية والمعارك الخاسرة. فنحن في هذا الفترة الحرجة نواجه أسوأ تململ اقتصادي منذ الكساد الكبير، كما تعترضنا تحديات المنافسة الناجحة على الصعيد العالمي، وليس أمامنا من خيار سوى التعالي على التقسيمات المغلوطة واعتماد نهج برجماتي يهدف إلى بلوغ الرخاء للجميع وتحقيق الأمن الاقتصادي.
روبرت روبين
وزير الخزانة الأميركي السابق
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جاريد بيرنشتاين
اقتصادي بارز بمعهد "السياسات الاقتصادية" الأميركي
ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"