بمناسبة اللقاء الإسلامي- الكاثوليكي الذي التأم الأسبوع المنصرم في روما برعاية بابا الفاتيكان، نشرت أسبوعية "الاكسبريس" الفرنسية ملفاً بعنوان "صدام محمد والمسيح"، وهو (عنوان كتاب صدر مؤخراً لكريستان ماكاريان مدير إدارة الصحيفة ذاتها). يتسم الملف بالكراهية الشديدة للإسلام وتشويه نصوصه، مما اقتضى تحريم الصحيفة في بلدان المغرب العربي، التي توزع فيها على نطاق واسع. والفكرة التي يقوم عليها الملف ويتم تفصيلها في الكتاب، هي أن الفرق المحوري بين المسيحية والإسلام، هو أن ديانة المسيح أنتجت قيم الحرية وحقوق الإنسان والتعددية، في حين أن الإسلام يتأسس من حيث بنيته العقدية ومنظومته التشريعية والسلوكية على العنف والتطرف والإقصاء. ويرجع "مكاريان" هذه"الخصوصية الإسلامية" إلى السمة الثيوقراطية الملازمة بزعمه للإسلام، باعتبار الترابط العضوي فيه بين الديني والسياسي الذي هو مرتكز هوية الأمة نفسها. وليس في هذا الموقف مسحة طرافة، بل هو مبثوث في الدراسات الاستشراقية العتيقة، وقد ردده في الآونة الأخيرة المستشرق العجوز "برنارد لويس"، الذي اعتبره أساس "أزمة الإسلام"(عنوان الكتاب الذي أصدره بعد أحداث 11 سبتمبر 2001). يوضح "لويس" هذا التصور بقوله: "عندما نستخدم نحن الغربيين الذين تغذينا من التقليد الغربي عبارة "إسلام" و"إسلامي"، نميل تلقائياً إلى ارتكاب خطأ عندما نظن أن الدين بالنسبة للمسلمين له نفس الدلالة التي كانت له في العالم الغربي حتى في العصر الوسيط، أي الدين بصفته محدوداً بمجال معين من الحياة وخاصاً ببعض الأنشطة. ليس الأمر كذلك في العالم الإسلامي. ولم يكن على هذه الحال في الماضي، وعلينا دون شك أن نقر أن المحاولات التي تمت في العصور الحديثة من أجل تغيير هذا الأمر، ليست سوى حالة غير طبيعية في السياق التاريخي الممتد". ويبدو أن الخطاب السياسي للحركات الإسلامية يستسيغ هذا الحكم، بل يكرر الأطروحة ذاتها، ولو بخلفية مغايرة : محاربة العلمانية بصفتها فصلاً للدين عن الدولة وإقرار مبدأ شمولية الإسلام بصفته ديناً ودولة، مصحفاً وسيفاً. بيد أن تمعن النظر في سياقي المسألة الدينية - السياسية مسيحياً وإسلامياً، يبين زيف هذه الأطروحة السائدة في أيامنا، مما يمكن إبرازه في الملاحظات الثلاث التالية: أولاً: ليس من الصحيح أن الخطاب اللاهوتي المسيحي أفرز فكرة التعددية والحرية، ويكفي الرجوع السريع للنصوص التوراتية ذات الصلة بالحرب المقدسة وعقيدة الإكراه الديني وأدبيات الحرب العادلة، لدى القديسين أوغسطين وتوماس الأكويني حتى ندرك هذه الحقيقة البديهية. صحيح أن ثمة تقليداً فلسفياً يبدأ بهيجل يربط فكرة الحرية بالمسيحية (القيمة المطلقة للإنسان من حيث هو غاية وموضوع الحب الإلهي)، إلا أن الأساس الميتافيزيقي لهذا التصور المفضي لفكرة الذاتية أجلى وأوضح في الإسلام لغياب مقولة التثليث والتجسد التي تشوه تمايز الخالق والإنسان. ثانياً: على الرغم من أن القراءة السائدة للفكر السياسي الغربي تنظر إلى التجربة العلمانية بصفتها قطيعة مع عهود تحكم الدين في الشأن العام وتعويضه بحرية التعاقد الجماعي، أن العديد من الباحثين الجدد في المسألة الدينية السياسية كشفوا عن الكثافة الإشكالية المسكوت عنها في العلاقة بين المسيحية والنظم العلمانية. فعالم الاجتماع الفرنسي المشهور "مارسل غوشيه" مثلاً يبين أن المسيحية هي "ديانة الخروج من الدين "، من حيث كونها تحمل جذور العلمنة بما تقوم عليه لاهوتياً من قيم الفردية والكونية والفصل بين حكم الأرض ومملكة السماء، إلا أن التصورات الليبرالية الحديثة للشأن السياسي، لم تكن لتتبلور إلا بالخروج من قبضتها، من خلال قلب مبدأ الشرعية لتحويله من الدين المطلق إلى المجتمع المحايث. بيد أن ما لم يبينه غوشيه هو أن هذا القلب تسنى عملياً بالحفاظ على الجوهر اللاهوتي من خلال فكرتي السيادة والتمثيل اللتين هما أساس المقاييس الليبرالية الحديثة.أما مفهوم السيادة الذي انتقل للحقل الليبرالي من نظريات الملكية الاطلاقية، فقد روعي فيه بوضوح تحويل الدولة إلى "إله محبوب مخوف" حسب عبارات "سبينوزا وهوبز"، أي إضفاء القداسة والسلطة الكلية على الدولة، التي "هي تجسيد اللاهوت المسيحي"، كما يقول "هيجل". أما علاقة مفهوم التمثيل بفكرة التجسد، فجلية للعيان، تبدو في توظيف القاموس اللاهوتي للدفاع عن فكرة تجسيد الدولة للمجتمع بصفته "ذاتاً غير منقسمة وقائمة بذاتها"، حسب الاصطلاحات الأوغسطينية. إن التنبيه إلى هذه الاعتبارات المجهولة في الفكر السياسي الغربي، قد يفهم منه التهوين من شأن الثورة الليبرالية المعاصرة، بيد أن الحقيقة هي أن التقليد الديمقراطي الغربي رفض دوماً هذه الخلفية اللاهوتية لتصور الدولة بجعلها إلهاً مقدساً مطلقاً، كما رفض احتواء تعددية الشأن الجماعي في فرضية العقد الاجتماعي بصفته تعبيراً عن إرادة مشتركة وهمية. ويهيمن هذا الإشكال على الحوار الفكري السائد حول مستقبل النظم الديمقراطية، مما لا يتسع المقام لبسط القول فيه. ثالثاً: من الخُلف أن نستنتج نظرية إسلامية مكتملة ومنسجمة من مبحث الإمامة في الكتب الكلامية والفقهية، وصولاً إلى القول بتلازم الدين والدولة في الإسلام الذي ليس حقيقة مطلقة شرعاً أو تاريخياً. فالإمامة لا تعني الدولة بدلالتها الحديثة من حيث هي مقوم الانتماء الجماعي ومبدأ الولاية والطاعة، وإنما تنحصر في تعريفات الفقهاء في أمر واحد، هو"حراسة الدين وسياسة الدنيا"، حسب التعريفات الشهيرة، التي بدأت مع الماوردي وتواصلت في كتابات الفقهاء والمتكلمين. وبغض النظر عن الاختلاف حول الأصول الفارسية - الزرادشتية لهذا التعريف، إلا إن الحقيقة التي لا مراء فيها هي أن سلطة الحكم في المرجعية الإسلامية الوسيطة شأن تدبيري قوامه اتقاء الفتنة وحفظ المجموعة، كما أن الفصل ظل قائماً بين المؤسستين الدينية والسياسية في التاريخ الإسلامي إجمالًا، على الرغم من بعض المحاولات المؤقتة والمحدودة للمزج بينهما. ويبين مبحث البغاة في الفقه الإسلامي رسوخ فكرة المعارضة وعجز السلطة السياسية عن إقرار مبدأ المماهاة بين دائرة الدولة ودائرة الشرعية الدينية. والمأزق الذي تقود إليه أدبيات الحركة الإسلامية هو الانجراف غير الواعي في منطق الدولة الشمولية الحديثة من خلال رفع شعار الدولة الإسلامية، الذي يعني في نهاية المطاف تحويل الإسلام الي سياج أيديولوجي للدولة القائمة.