لدى وصول معدل سعر جالون البنزين الواحد في محطات التزويد الأميركية إلى نحو 4 دولارات خلال موسم صيف العام الحالي، كان دعاة الطاقة البديلة في قمة الفرح، طالما أن أسعار الطاقة الأحفورية التي ما كفوا عن انتقاد بلادنا بسبب الاعتماد شبه الكلي عليها، قد بلغت حداً لا يستطيع تحمله المستهلك الأميركي. فبسبب غلاء أسعار النفط، اضطر الكثير من السائقين الأميركيين إلى التخلي عن سيارات SUV الشافطة للوقود، بل تخلى الكثير منهم عن قيادة السيارات عموماً، بينما أصبح البعض الآخر أكثر حماساً للسيارات الصغيرة الهجينة، أو للاعتماد على وسائل المواصلات العامة. كما شجع ارتفاع أسعار وقود النفط بعض المستهلكين على الميل لأنشطة ووسائل أكثر صحية مثل قيادة الدراجات ورياضة المشي وغيرها. وبين هذا وذاك ارتفعت أصوات البعض وحججهم القائلة بضرورة إدراك الأميركيين في نهاية الأمر، لحاجتهم إلى إحداث تغيير جذري على عاداتهم ونمط حياتهم، بما يساعد على الحد من اعتمادهم شبه التام على موارد الطاقة الأحفورية، وخاصة منتجات الطاقة المستوردة من الدول الأجنبية. وكثيراً ما ارتبطت هذه الحجج والمناقشات بقضية أمن الطاقة، لاسيما أن الدول الأجنبية المعنية، تعاني مناطقها من قلاقل سياسية وأمنية، ربما لا تجعل منها مورداً آمناً ومستقراً للطاقة التي تحتاجها بلادنا. وطوال موسم الصيف الماضي، واصلت مبيعات السيارات الكبيرة العالية الاستهلاك للوقود انخفاضها إلى أدنى مستوى لها منذ عدة سنوات، بينما ارتفعت قوائم الانتظار الخاصة بالراغبين في شراء السيارات من طراز "تويوتا بايروس" وغيرها من السيارات الهجينة، ذات الكفاءة العالية في استهلاك الطاقة. ثم حل شهر سبتمبر الذي شهد بدايات الأزمة المالية التي ظهرت أعراضها هنا في أسواقنا المحلية أولاً، قبل أن تستشري كالوباء لتشمل العالم بأسره تقريباً، أو لنقل الجزء الأعظم من العالم، على أقل تقدير. ومثلما تراجعت مؤشرات النمو الاقتصادي العالمي في ظل الأزمة المالية الراهنة، تراجعت أخيراً أسعار البنزين وغيره من منتجات الطاقة النفطية، حتى وصل سعر الجالون الواحد اليوم إلى ما دون الثلاثة دولارات. لكن هل يعني انخفاض أسعار الوقود، ترجيح عودة المستهلكين الأميركيين لنمطهم الاستهلاكي السابق، أي استئناف غالبيتهم لقيادة السيارات وشراء مزيد منها، خاصة الكبيرة الشافطة للنفط؟ ليست عودة كهذه مرجحة البتة. فرغم أن انخفاض أسعار الوقود يعادل خفضاً ضريبياً كبيراً من على عاتق المستهلكين، إلا أن هناك من مؤشرات السوق الأخرى، ما يرجح بوضوح اتجاه غالبية المستهلكين إلى خفض معدلاتهم الاستهلاكية بنسب مقدرة، خاصة ما يتعلق منها باستهلاك المنتجات الكبيرة مثل السيارات. وتبدو هذه المؤشرات واضحة في نسب مبيعات شركات السيارات. فقد أشارت إحصاءات شهر أكتوبر الماضي، إلى انخفاض مبيعات شركة "جنرال موتورز" بنسبة 45 في المئة، بينما انخفضت مبيعات كل من شركتي "فورد" و"تويوتا" خلال الشهر نفسه بنسبة 30 و25 في المئة على التوالي. بل إن مؤشرات شهر نوفمبر الجاري تشير إلى انخفاض أكثر سوءاً من مؤشرات أكتوبر، ما يعني تشريد مزيد من العاملين في مصانع السيارات من وظائفهم، إلى جانب الانخفاض العام في صناعة السيارات. كما يتوقع أيضاً أن تكون تداعيات هذه الأزمة أكثر إيلاماً وضرراً باقتصادات دول العالم الأخرى، بينما بدأت تلوح في الأفق نذر الركود الاقتصادي الأميركي على مدى العام المقبل. ومع أنه يصعب في الوقت الحالي التكهن بمدى العمق الذي يمكن أن تبلغه موجة الركود الاقتصادي هذه، إلا أنه يمكن القول إنه ليس من عودة قريبة متوقعة إلى ارتفاع أسعار النفط إلى المعدلات العالية التي شهدتها في صيف العام الحالي، خاصة إذا ما وضعنا في الاعتبار أيضاً الصعوبات الاقتصادية الكبيرة التي تعم أوروبا والجزء الغالب من القارة الآسيوية. ومن الطبيعي أن يشير الاعتقاد السائد إلى أن موجة الركود المتوقعة، مصحوبة بخفض الميزانيات القومية للدول، سوف يخفضان سقف تمويل المشروعات الضخمة المقترحة في مجال الطاقة، بما فيها إنشاء محطات الطاقة النووية ذات التكلفة الباهظة، إلى جانب تمويل البحث العلمي في مجال تطوير مشروعات الطاقة البديلة المستدامة، مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح والماء. والمتوقع ألا تغامر الشركات الخاصة بالاستثمار في مثل هذه المشروعات، ما لم توفر لها الدولة الضمانات الكافية المطمئنة. ولن يتحقق هذا هنا في الولايات المتحدة الأميركية إلا في حال وضع الرئيس المقبل سياسات الطاقة في رأس جدول أعماله وأولوياته، إلى جانب تعاونه مع الكونجرس في تمويل مشروعات الطاقة والبنية التحتية الرئيسية، حتى يتسنى له خفض واردات النفط الأجنبي من جهة، جنباً إلى جنب توفير الوظائف للعاملين في فترة الكساد الاقتصادي، من الجهة الأخرى. وعلى رغم هذه الصعوبات، فإنه كثيراً ما أدت الأزمنة القاسية إلى اتخاذ القرارات الجريئة. ولا ريب في أن هناك آفاقاً لمبادرات جديدة في تطوير مشروعات الطاقة البديلة، سواء أكان ذلك في أميركا أم في أوروبا وآسيا. وعلى أية حال، فسوف يبقى النفط والغاز الطبيعي ضمن مكونات الطاقة العالمية الرئيسية، بالنظر إلى ارتفاع كفاءتهما. وبالنسبة للغاز الطبيعي فهو أكثر نظافة إذا ما قيس بالفحم الحجري وغيره من منتجات الطاقة الأحفورية. وسوف يبقى الحماس النفسي والسياسي لتطوير موارد الطاقة البديلة -لاسيما لتوفير الوقود الخاص بقطاع النقل- عالياً رغم الأزمة المالية وما أحدثته من صدمة كبيرة لاقتصادات شتى الدول، ورغم انهيار المقولات السابقة عن المنحنى التصاعدي والمتسع دوماً لعملية النمو الاقتصادي. وسوف تظل الرغبة في تغيير سياسات الطاقة الراهنة كبيرة وملحة، إلا أن السؤال يبقى مفتوحاً حول ما إذا كان في وسع حكومات الدول، إحداث تغييرات جذرية في سياساتها الخاصة بالطاقة، رغم بيئة الركود الاقتصادي الراهن، وفي وقت تلح فيه الحاجة وترتفع فيه تكلفة خفض التأثيرات المؤلمة للكساد الاقتصادي، والذي يثقل كاهل المواطنين العاديين!