ألقت الأزمة المالية العالمية بظلالها المتناقضة على العلاقات الاقتصادية الدولية، وأدت إلى تغير العديد من المفاهيم والمواقف السابقة، فالاقتصاد الغربي الغارق حتى أذنيه في الأزمة يحاول التمسك بأي طوق نجاة يرمى إليه، حتى ولو أدى ذلك إلى التخلي عن مواقف صارمة سبق وأن اتخذها في وقت سابق من هذا العام. وحتى قبل أربعة أشهر من الآن أتحفنا العديد من المسؤولين في الغرب بدروس حول حماية مؤسساتهم الاقتصادية التي تمثل أهمية قومية واستراتيجية، والوقوف بصرامة أمام شراء أصولها من قبل الصناديق السيادية في الصين والهند ومنطقة الخليج العربي، بل إنهم اتخذوا خطوات عملية حالت دون استكمال بعض عمليات الاستحواذ وشنت حملة من قبل الكونجرس الأميركي بالذات لوقف مثل هذه العمليات الاستحواذية. وفي بداية هذا الأسبوع وصل رئيس الوزراء البريطاني جوردون براون إلى منطقة الخليج في جولة تستهدف الطلب من دول المنطقة المساهمة في حل الأزمة المالية العالمية ووقف امتدادها للاقتصاد الإنتاجي، وذلك من خلال ضخ المزيد من السيولة التي تتمتع بها دول المنطقة، منوهاً إلى العلاقات التاريخية الجيدة التي ترتبط بلده ببلدان المنطقة. وقبل ذلك زار نائب وزير الخزانة الأميركية بلدان الخليج لطلب المساعدة نفسها، إلا أن جولة براون تكتسب أهمية خاصة على اعتبار أنها جاءت بعد أن رفضت الصين أثناء مؤتمر القمة الآسيوي الأوروبي الأخير الذي عقد في بكين في شهر أكتوبر الماضي دعوات الأوروبيين، وبالأخص الرئيس الفرنسي لضخ جزء من السيولة النقدية الضخمة التي تتمتع بها الصين والمقدرة بـ1900 بليون دولار، حيث اشترطت الصين مقابل ذلك أن يعاد النظر في النظام المالي العالمي، وأن يكون للصين دور يتناسب وقوتها الاقتصادية. ولكن، ماذا يتوقع رئيس الوزراء البريطاني من ردود في بلدان منطقة الخليج؟ الردود الخليجية لن تختلف كثيراً عن الرد الصيني في المضمون، إلا أنها ستكون أكثر دبلوماسية، فالعالم اليوم لم يعد هو عالم ما قبل الأزمة والأوضاع المالية في الخليج بدورها طرأت عليها مستجدات عديدة، وخصوصاً أن بعض المؤسسات الخليجية واجهت صعوبات أثناء عمليات الاستحواذ التي تمت خلال عامي 2007 و2008 بل إن بعضها انسحب من صفقات مهمة بسبب المعارضة الشديدة التي واجهها من قبل الأجهزة التشريعية والتنفيذية في الغرب. لذلك، فإنه يتوقع أن يتضمن الرد الخليجي جانبين مهمين، الأول هو مشاركة خليجية أكبر في النظام المالي العالمي الجديد الذي يتم الحديث عنه في أوروبا بالذات، بما في ذلك المشاركة في المنظمات الدولية، كالبنك الدولي والذي جاء براون من أجل دعمه بموارد اضافية. أما الجانب الآخر، فيتعلق بالضمانات التي يمكن أن يقدمها الغرب للاستثمارات الأجنبية، فالتدفقات النقدية الخليجية التي تراكمت خلال السنوات الأربع الماضية من جراء ارتفاع أسعار النفط تعتبر مسألة في غاية الأهمية للاقتصادات الخليجية التي ربما تتأثر فيما لو انخفض سعر النفط عن 50 دولاراً للبرميل. وباختصار فإن مطالب البلدان التي تملك صناديق سيادية في آسيا والخليج تتركز في ضرورة وجود منهجية ونظام للتعامل، وذلك ضمن الاقتراحات الخاصة بالنظام المالي العالمي الجديد، إذ لا يمكن محاربة استثمارات الصناديق السيادية بحجج سياسية في النصف الأول من عام 2008 ليتم التودد إليها والترحيب بها لاعتبارات اقتصادية في النصف الثاني من العام. ثم إن المؤسسات الاوروبية بالذات لا تقبل بهذا النوع من التعامل غير المنهجي والذي تتحكم فيه الرغبات السياسية وضغوط مراكز القوى أكثر من المصالح الاقتصادية المشتركة التي تتحكم في مسار الاستثمارات وتحركاتها حول العالم. ودول الخليج والصين والهند وروسيا كلها تفهم جيداً أن الأزمة عالمية، وأنها تمس مصالحها، بدليل تراجع النمو الصيني إلى 9% بدلًا من 11% وانخفاض صادرات الصين للولايات المتحدة وتأثر السيولة وعمليات الائتمان في الهند ومنطقة الخليج، وبالتالي، فإن هذه الأطراف حريصة على المساعدة في الحد من تداعيات الأزمة المالية العالمية، إلا أن تلك المساعدات التي ستساهم مساهمة فعالة في محاصرة الأزمة والخروج منها بأسرع وقت، لا تعني العودة إلى المربع الأول، بمعنى انحصار الثقل المالي في المراكز العالمية السابقة وتفردها بوضع الأنظمة والتشريعات التي تحكم عمل الأسواق المالية وتدفق الاستثمارات حول العالم. فمثل هذا الوضع لا يقبل به حتى الاتحاد الأوروبي نفسه الذي يطالب الآن بوضع نظام مالي عالمي جديد، بحيث تشكل دول مجلس التعاون الخليجي أحد أهم مكوناته الأساسية، وخصوصاً أنها أقامت في السنوات القليلة الماضية مراكز مالية عالمية تتمتع بأنظمة وتشريعات متقدمة يمكنها منافسة المراكز المالية العالمية الأخرى في العالم، إذ لا يمكن لجوردون براون عند طلبه مد يد المساعدة تجاهل هذه المستجدات الناجمة عن الأزمة المالية في العالم.