أرجع رؤساء الحكومات والمصرفيون مثلهم مثل المحللين أسباب الانهيار المالي الذي يشهده العالم هذه الأيام، إلى حالة الفزع التي انتابت المستثمرين والمودعين، وحتى البنوك وهي تحاول الاقتراض بعضها من بعض آخر، وكأنما مصائب العالم الاقتصادية مرجعها لحالة الفزع غير المبرر، في محاولة لتمرير أخطاء العديدين من الوسطاء والنافذين في شركات التأمين وفي البنوك الاستثمارية ذوي التصرفات المغلفة بالضبابية والغموض، والمستخدمين لأدوات اشتقاق مالي لا يفهمها إلا كبار علماء الرياضيات وهندسة المثلثات! الفزع الـمُشار إليه أذاب عدة مليارات من الدولارات، وأفقد مواطنين في الدول الصناعية مئات الآلاف من الوظائف، وأصاب الحالة الاقتصادية بما هو واقعٌ بين مصطلحي الركود والكساد، لكن الذي لم ينتبه إليه أحد هو ألا أحد في الدول الفقيرة وساكنيها قد أصابه الفزع من فزع الأغنياء المترفين.. أما السبب فبسيطٌ جداً ومعروف: كل الفحش في الثروة وامتلاكها وسُبل عيش المترفين لم يكن يعني هؤلاء التعساء وحياتهم، والذين تمتلئ بهم قارات بكاملها.. في آسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية. فكبار مديري بنك "ليمان برذر" و"ميريل لنش" كان الواحد منهم يتقاضى مكافأة فوق راتبه تتراوح بين 70 إلى 100 مليون دولار في السنة الواحدة أي بما يكفي لإعاشة مليون فقير عالمي دخله في الشهر -مع المبالغة- لا يتعدى 100 دولار فقط! ولم يصب الفزع الأغنياء من قبل، والملايين من البشر في قارات البؤس يعانون من أمراض الفقر وسوء التغذية، ولم تكن تعنيهم أوبئة الملاريا والكوليرا والأيدز والزحار المتعايشة مع أحزمة العوز المحيطة بالكرة الأرضية. كان الـمُترفون يأخذون ويشترون الألماس والذهب والفضة والمعادن الثمينة والخسيسة بأبخس الأثمان، دافعين رُزماً ضئيلة من العملات الصعبة ومعها أسلحة كثيرة ليقتل الأفريقي أخاه، والآسيوي صديقه وجاره. كان التخطيط للعطلات ورحلات المتعة تأخذ حيزاً كبيراً من ميزانيات شعوب الرفاهية، بينما كانت مجاميع مهولة من المهمشين والعاطلين في أرجاء الأرض لا تعرف من الرحلات إلا ما تقطعه بين عيشتها الضنكة وقبورها الجماعية بلا شواهد. وفي المقابل فإن الفزع على شركتين أو ثلاث ومعها أربعة بنوك أقام الدنيا ولم يقعدها، أما الفزع الذي يولده الحرمان والشقاء والسُّخرة والاستغلال وضياع الأمل، فلن يُخصص له سوى برنامج واحد يُعد على عجل ولدقائق معدودة وفي قناة لا يشاهدها أحد. لقد عقد من أجل حل المعضلة الاقتصادية العالمية الحالية، ما يقرب من خمسة عشر مؤتمر قمة ومعها اجتماعات للوزراء المختصين، وتردف كل ذلك ندوات لرجال الأعمال والصيارفة والمهتمين بالشأن المالي، ناهيك عن الآلاف والآلاف من الحوارات التلفزيونية والمقالات التي تطرح أسئلة مثل: لماذا وكيف ومتى حدثت العاصفة الاقتصادية العالمية الـمُفزعة.. وما هي الحلول؟ لكن في المقابل وكمدعاة للتجربة المؤلمة لم يُعقد لمعالجة مشكلة الفقر في العالم إلا مؤتمر واحد أو مؤتمران حضرهما ثلاثة رؤساء دول وجمعٌ بسيط من مسؤولي الدرجة الثالثة في الدول المشكلة للأمم المتحدة وذلك في كامل القرن العشرين المنصرم وحتى مطلع قرننا الحالي! أما ما نتج عن هذه المؤتمرات الخجولة فليس إلا أطناناً من الوعود وكلمات التشجيع، وبعد أن انفض مولد الواعدين والمساندين زوراً، زادت بلا أدنى شفقة مشكلات التصحر، وموتى الفقر المائي والغذائي، جنباً إلى جنب مع الأرقام المتصاعدة لضحايا الأمراض المعدية والحروب البينية التي تُغذيها مطامع الدول التي ناقشت مشاكل الفقر لتوها! في عام 2002 ألف "أديب ديمتري" كتاباً أسماه "ديكتاتورية رأس المال" صدر عن دار المدى للثقافة والنشر، قال فيه وهو يُشير إلى أن أرقامه ستتعاظم -بالتأكيد- في السنوات المقبلة: "إن عدد الجوعى في العالم زاد في سنة واحدة خمسة ملايين إنسان، وإن واحداً من كل خمسة من عدد سكان العالم لا يأكل حتى يشبع، على رغم أن الإحصاءات تدل على أن ما يُنتج من الغذاء في العالم يكفي لغذاء كل فرد واحد على الأرض.. لو أُحسنَ توزيعه بعدالة؛ هناك في العالم -والكلام لازال للمؤلف- 828 مليون جائع، 800 مليون منهم في البلدان الفقيرة، وربعه من الأفارقة العشرة جوعى، و13% من سكان قارة أميركا اللاتينية في عوز خطير". .. في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا النسبة ذاتها، وفي دول (الأوبك) 40 مليوناً يعانون من الجوع وسوء التغذية، وفي المقابل يضطر بعض الدول الغنية في الغرب إلى تبوير مساحات واسعة من أراضيها حتى لا يتكدس فائض القمح أو المحاصيل الزراعية الأخرى؛ 1.3 بليون شخص في العالم لا تصلهم المياه النقية، و800 مليون إنسان لا يتمتعون بأي خدمات صحية، وتقدر منظمة الصحة العالمية من يموتون يومياً لعدم توفر المياه الصحية بـ25 ألف حالة وفاة، أما 1.3 بليون شخص فيعيشون على دخل أقل من دولار واحد في اليوم، حسب إحصاءات ما قبل ثماني عشرة سنة من الآن، وتزيد في المقابل ثروات أغنى ثلاثة أشخاص في العالم عن الناتج المحلي الإجمالي لـ(48) بلداً هي الأفقر في العالم، وواحد من كل سبعة أطفال في العالم لا يلتحق بالمدرسة الابتدائية لفقره.. إلخ). هذه الأرقام هي أرقام أواخر عقد التسعينيات من القرن الميلادي الماضي.. فكيف الحال الآن والسكان في العام يزدادون باطراد وفجوة الغنى والفقر تتسع كثيراً؟ ...إذاً!! من هو الأحق بالفزع: مَن فقد جزءاً صغيراً من أرباحه التي تكفي قارة بكاملها، أم الذين يسمعون ويقرؤون ويشاهدون الآن خفايا ما كشف عنه الإعصار المالي العالمي؟!