هل يختلف التدين في مصر عنه في الخليج وتركيا ودول آسيا وأفريقيا وأوروبا؟ وما سمات الوعي الديني لدى المصريين؟ أستاذ علم الاجتماع بجامعة عين شمس، د. عبدالباسط عبدالمعطي، حاول في مقال له بدورية "الديمقراطية" عدد أبريل 2007، أن يدرس ملامح تدين المصريين، فوجد ست نقاط تستحق الرصد: المجتمع المصري يُعد بشواهد تاريخية كثيرة، من أكثر المجتمعات تديناً، حيث كان من المجتمعات الأولى التي أكدت الحاجة إلى الدين. والمصريون في تدينهم أكثر وسطية وأقل تشدداً، ولهذا كان من النادر أن يتمسكوا من الأجيال السابقة بالمذهب الحنبلي، وقد وهبهم فهمهم للدين المسيحي والإسلام هذه الوسطية الممزوجة بالسماحة. ولا يتمايز المصريون في ملابسهم ومظاهرهم وفق عقائدهم ويبقى التمايز قاصراً على الرموز الدينية ممن يؤدون وظائف معينة. إنه تدين يرفض الجهامة والكآبة والقتامة في القول والفعل وفي المظهر والمخبر، إنه تدين أقرب ما يكون إلى البهجة والفرح والاهتمام بالتزين في المناسبات والأعياد الدينية. و على مستوى العلاقات والمعاملات أقرب ما يكون إلى العقلانية المستوعبة للحقوق والواجبات. فمن الأمثال الشعبية "الزيت اللي يعوزه البيت أي يحتاجه يُحرم على الجامع"، إضافة إلى عدم شذوذ الوعي الديني عن مستلزمات الوحدة الوطنية. هذه الملاحظات صحيحة وذات دلالة، لكن لماذا انتشر "الإسلام السياسي" في مصر بهذه القوة والسرعة؟ ولماذا توالى ظهور الجماعات الحركية منذ عام 1928، بداية تشكل "الاخوان المسلمين"؟ ولماذا تطغى في مصر مفاهيم ومظاهر التشدد الديني في هذه المرحلة، على السمات الاجتماعية والثقافية المتسامحة التي توارثها هذا المجتمع؟ ولماذا تقع الفتن بهذه السهولة بين المسلمين والأقباط؟ بل ولماذا كادت قيم المعاصرة والتحديث التي كان المجتمع المصري من منابعها في العالم العربي والإسلامي، محاصرة بهذا الشكل في نخب محدودة؟ تحليل د. عبدالباسط... كالآتي: يشتكي الباحث من ندرة البحوث العلمية حول الوعي الديني لدى المصريين. إلا أن الدراسات المتاحة تقول لنا ما يلي: أولاً: إنه وعي ديني مُفتت ومُجزِّئ للمفردات، سواء لدى المسلمين أو المسيحيين. فبعض المتدينين أصولي محافظ، ومنهم من يعتبر نفسه مستنيراً مستوعباً للمستجدات، ومنهم السلفي البحت، ومنهم من يعتبر الآخرين كفرة مرتدين! ثانياً: بما أن وعي المصريين المعاصرين بالدين مفتت ومجزِّئ، فهو حافل بالازدواج والتناقض، يدلل عليه تعدد الخطابات الدينية المفسرة؛ فثمة "خطاب إرجائي"، يربط الناس بالآخرة ناراً وجنة، عذاباً وترحاباً. ولهذا نادراً ما نجد هذا الخطاب يتجاوز العبادات إلى المعاملات، ولا يتحدث في أمور مهمة كالشورى والديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية. وهو خطاب يسود عادة الإعلام الرسمي، خاصة المرئي منه. وهناك "خطاب تجييشي"، يجمع الناس من حوله، موظفاً أساليب جديدة في عرض القضايا والموضوعات، منها الإبهار بالحركة، وتغيير نبرات الصوت وطبقاته، بجانب استغلال حاجات الناس. وهو خطاب غالباً ما يلجأ إليه "الاخوان المسلمون"، من أجل أهداف ومرامٍ سياسية، وهم يتوجهون بهذا الخطاب إلى الأقل تعليماً والأكثر فقراً وتهميشاً، فتجد هذه الفئات لدى الإخوان حلولاً مؤقتة لمشكلاتهم اليومية. والخطاب الآخر "استقطابي"، يتوجه إلى الأفراد، وينشد الخلاص الفردي يتمحور حول الفردية والاستهلاك، ويدعم فكر رجال الأعمال ومصالحهم، ويكاد يكون مثالهم الأشهر "عمرو خالد". وأخيراً هناك "الخطاب التلفيقي"، وهو يأتي غالباً من خارج المشتغلين بعلوم الدين من المثقفين، ممن سعوا إلى التوفيق بين الأصالة والمعاصرة والتراث والتحديث ولم ينجحوا حتى الآن. وهكذا أفضت جملة الخطابات الدينية السائدة هذه، إلى تجزئة الوعي الديني لدى الناس. ثالثاً: يدعم ما سبق ويتفاعل معه، بروز وعي ديني نصِّي تبريري مظهري، وقد كان "الحوار الديني" في مصر وربما لا يزال، عبر رموزٍ تلصق على المركبات وسيارات الأجرة وبعض المحلات التجارية، إضافة إلى اللحى وشكل الملبس ووضع الساعة في اليد اليمنى والمسابح والعمامات والحجابات بأنواعها الاجتماعية والطبقية والعقائدية. لم يقع هذا التحول الديني هكذا وبسرعة في مصر، بل مرّ بمراحل، في البداية أتت التحولات مع الرئيس "السادات"، عندما أعلن "دولة العلم والإيمان"، واستعان بالإخوان المسلمين لمواجهة "الناصريين" و"اليساريين". ثم كانت سياسات الانفتاح واندفاع القطاع الخاص وتراجع الدولة، وبهذا، يقول الباحث، "فرض على واقع المصريين وعي ديني مقترن مصنوع". ولعب عامل خارجي أهمية كبرى في تحولات الوعي الديني في الشارع المصري، حيث "تزامن مع التغيرات المشار إليها، هجرة واسعة للمصريين من كل الأوضاع الطبقية، بما في ذلك تجار العملة ومعلمو الاستيراد، إلى منابع النفط العربي. وبقدر تأثير المصريين في مجتمعات تلك المنابع إيجاباً وسلباً، بقدر تأثر توجهاتهم في الاستهلاك والاستثمار، وبالوعي الديني السائد هناك.. وهو وعي ديني تسوده السلفية والتقليدية النصية والمحافظة في الخطاب الكلامي وفي الممارسات والمظاهر الدينية.. وأنشئت في مصر جمعيات ذات توجهات مرتبطة بالوعي الديني، وبتمويل من هناك، بجانب مساجد وبنوك.. بإيجاز شديد، أفضت تفاعلات الداخل والخارج إلى انتاج حالة اغتراب في الوعي الديني المصري، فأبعدته عن جذوره وأصوله، وديناميات تغيراته عبر القرون". ما الذي يمكن فعله لإنقاذ الوعي الديني المعتدل المتسامح الإنساني في مصر؟ إن هذا السؤال مطروح على كل البلدان العربية والإسلامية اليوم بعد أن عمّت البلوى بهذا التشدد والتطرف والارهاب، لكن د. عبدالمعطي يقترح عدة أشياء: 1- سياسياً نحتاج إلى جهود تجعلنا نلتف جميعاً حول حق المواطنة وتجذير هذه الفكرة في عقل ووجدان كل مصري. 2- تدعيم المشاركة الاجتماعية والسياسية، وتحرير كافة منظماتها وصيغها، فالمشاركة هي التي تعدل الوعي الديني وتبدل فيه وتثريه. 3- إعادة النظر وعلى نحو جذري في أساليب ومناهج ومضامين المقررات الدينية من الطفولة المبكرة، وحتى مختلف مراحل التعليم. ومقترحات د. عبدالمعطي في صميم علاج التشدد حقاً، ولكن كيف يمكن وضعها موضع التطبيق؟ فلو وقفنا مثلاً عند "حق المواطنة" ومساواة الناس رغم اختلاف الأديان لوجدنا من يثير اعتراضات دينية في وجه هذه المساواة، بل ومن الإسلاميين، كما رأينا في الكويت مثلاً، من يرفض تحية العلم والنشيد الوطني، ومن الإسلاميين من يعتبر "الوطنية" برمتها، "بدعة أدخلها الغرب الصليبي في ثقافة المسلمين لتفتيت وحدتهم وتحطيم دولة الخلافة". ولا تزال ثلاثة أهداف سياسية تتصارع في شوارعنا دون حسم منذ قرن: "الدولة الوطنية" أو الاقليمية، مثل مصر وسوريا، و"دولة الوحدة العربية" التي تضم كل الأقطار العربية، ومن حق أي دولة عربية تجد نفسها مؤهلة أن تبادر إلى إلغاء "هذه الحدود التي وضعها الاستعمار". وأخيراً "دولة الوحدة الإسلامية أو الخلافة"، والتي تتبنى شعار أن "جنسية المسلم عقيدته"، وتجعل المصريين والكويتيين والجزائريين وغيرهم "يجاهدون" في العراق والبوسنة وأفغانستان فبعكس كل شعوب الأرض تقريباً، ثمة أفكار سياسية واسعة الانتشار في ثقافتنا، تسحب الشرعة من كياناتنا وحدودنا، وتفتح على الدوام المجال لهدم ما تم بناؤه وتدعونا لأن نصرف قدراً كبيراً من الجهد السياسي والاقتصادي والفكري على أهداف غير واقعية. وتحدث النقطة الثانية من اقتراحات د. عبدالمعطي إلى الاهتمام بهيئات ومؤسسات المجتمع المدني من جمعيات وهيئات وأحزاب ونقابات. غير أننا في العالم العربي رغم وجاهة اقتراح الباحث، نعاني من عائقين في هذا المجال: الدولة ومصالحها وبيروقراطيتها وضغوطها وأحياناً ممنوعاتها الكثيرة من جانب، وضعف التواجد الشعبي في هذه المؤسسات من جانب آخر. ولا تأثير تقريباً في الحياة السياسية العربية للعمال والطلبة والمرأة والفلاحين، كما أن الكثير من الجمعيات و"النقابات" في بلدان عربية عديدة، مجرد هيئات شكلية بيد السلطة. ونقف عند النقطة الأخيرة المقترحة من د. عبدالمعطي، وهي وجيهة جداً كالنقطتين السابقتين، وتدعو إلى تغيير المناهج التعليمية والمقررات والجو المدرسي، من الروضة إلى الجامعة، و"المشكلة" هنا مشاكل في الواقع! فالخدمات التعليمية في العالم العربي متردية جداً، والمدارس مزدحمة، والجامعات فقيرة علماً ومالاً ومكتبات! والتعليم اليوم في كل العالم العربي، مثل الوعي الديني في مصر الذي يتحدث عنه د. عبدالباسط، "مفتت ومجزأ"، ويكاد يخلو هذا العالم العربي من أي تعليم جيد اللهم سوى في بعض المدارس الأجنبية أو الجامعات الخاصة، أو على يد مدرس حي الضمير! ولا نكاد نرى دولة عربية واحدة لا يرقد مسؤولوها ليلاً ملء أجفانهم قلقاً على تردي التعليم ومشاكله! خليل علي حيدر