لقاء مبارك - بيريز يوم الخميس الماضي في شرم الشيخ يحتاج إلى تفسير. فلم تتم لقاءات على هذا المستوى بين مصر وإسرائيل منذ فترة طويلة. ومصر مشغولة بتحضير الجانب الفلسطيني للمصالحة وبالتالي لتأمين ظروف معقولة للمفاوضات بينه وبين وإسرائيل. ويلفت النظر في هذا اللقاء أنه تم قبل ساعات من إعلان تسيبي ليفني تفضيلها لانتخابات جديدة. كما يلفت النظر بصورة أقوى أن الحديث عن السلام الشامل بين العرب وإسرائيل يتم في غيبة الولايات المتحدة. وربما تكون بعض هذه "الغرائب" هي التفسير أو هي الدلالات المهمة في هذا اللقاء. فمن الغريب أن يقوم الرئيس الإسرائيلي الذي لا يملك بصفته رئيساً سلطات لأكثر من إطلاق تصريحات عامة بزيارة مبارك في الوقت الذي تنتظر فيه إسرائيل إجراء انتخابات خلال ثلاثة أشهر. ولا تتمتع الحكومة القائمة في إسرائيل الآن بالتفويض السياسي الضروري لإطلاق عملية دبلوماسية كبيرة جديدة. لكن إجراء انتخابات جديدة في إسرائيل قد يفسر زيارة الرئيس الإسرائيلي لمصر ولقاءه مع مبارك. فهو إضافة للدعاية لنفسه كرجل سلام وكصاحب مشروع "الشرق الأوسط الجديد" الذي مات مع بداية الألفية الجديدة، يريد أن يحصل من مبارك على تصريحات أو مواقف تدعم ليفني التي يتوقع أن تخوض انتخابات شرسة. وفضل بيريز أن يبدأ مبكراً تحريك موقف مصري ملائم لليفني أو لتحالف "كاديما" و"العمل" قبل أن تدخل الانتخابات مرحلتها الحاسمة. ويأمل بيريز أن يغير الأجواء الإسرائيلية الحالية والتي يبرز فيها الصراع مع إيران حول الملف النووي بحيث يصبح الحديث عن السلام الشامل هو الموضوع الرئيسي بما يلائم التيار الأقل تعصباً في السياسة الإسرائيلية. وهذه بذاتها تعد من أغرب مظاهر الوضع السياسي في إسرائيل. إذ أن الحديث عن السلام ليس فقط مع الفلسطينيين وإنما أيضاً مع سوريا صار أمراً شائعاً في إسرائيل رغم أنه لم يتحرك كثيراً على المستوى العلني. وقد يعني ذلك في الحقيقة أن المفاوضات التي هي سرية إلى حد كبير على المسارين معاً، تحركت أو تقدمت بصورة تدعو الإسرائيليين للتفاؤل. ولأن الجانب الفلسطيني ينفي تماماً حدوث أي تقدم، فالأرجح أن الإسرائيليين يتحدثون عن أجواء "افتراضية" للسلام. وربما يعني ذلك أيضاً أن النقاشات الداخلية في إسرائيل انتهت إلى تفضيل عملية سريعة للحصول على سلام مع سوريا وفلسطين في وقت واحد أو متقارب. ويلفت النظر أيضاً في هذا اللقاء أنه تم في غيبة أميركا. ومن العجيب أن يبدأ الرئيس الإسرائيلي تحركاً دبلوماسياً مهماً دون أن يبلغ الجانب الأميركي. بل إن الانتخابات الرئاسية تفرض غياب أميركا فرضاً. لكن ربما تكون هذه هي الرسالة التي تفسر زيارة بيريز لمبارك في شرم الشيخ. وربما يكون الإسرائيليون والعرب أيضا قد استنتجوا أن الدور الأميركي صار عبئاً وليس ميزة وأن انتظاره يعطل التوصل لنتائج تفاوضية مهمة. ويمثل هذا التفكير انقلاباً في سياسات الصراع العربي الإسرائيلي وفي سياسات الشرق الأوسط عموماً. إذ ظل الدور الأميركي من الثوابت الأساسية للفكر السياسي والدبلوماسي حول التسويات الكبرى في المنطقة، وخاصة تسوية الصراع العربي الإسرائيلي. وكان الرئيس الراحل أنور السادات يكرر بدون ملل أن 99% من أوراق اللعبة بيد أميركا. وقد ثبت بعد ذلك أن هذا غير صحيح. وانتظر المصريون والعرب أكثر من ثلاثين عاماً، منذ زيارة الرئيس السادات للقدس، لكي تتحقق نظريته. ولم تتحقق. ولا شك أن فشل أميركا في إبرام سلام دائم وعادل وشامل في المنطقة، يعود إلى القيود التي وضعتها على نفسها. فهي لا تقترح أي أمر يرفضه الإسرائيليون. وهي تنكر عملياً مرجعية وإلزامية القرارات الدولية. كما أن النظام السياسي الأميركي لا يتيح دائماً للرئيس أن يخوض تجربة تفاوضية ناجحة في المنطقة إلا في حالات استثنائية. ومع أن العرب هم من يفترض أن يستنتجوا فشل الدور الأميركي، فهم لا زالوا يطاردون "الفرصة السعيدة" التي تأتي برئيس أميركي راغب في إحداث اختراق في الوضع الراكد في المنطقة. ومن العجيب أن إسرائيل هي التي بادرت بالتمرد على "المظلة الأميركية". وكان هذا التمرد صادماً بل ومذهلاً. وحدث عندما أصرت إسرائيل على خوض المفاوضات غير المباشرة مع سوريا بوساطة تركية، رغم رفض الرئيس بوش وإدارته لهذا القرار. إذ مثل هذا القرار تدميراً لسياسة بوش في "عزل سوريا"، بل وافتتاحاً لمشهد جديد يمكن لإسرائيل فيه أن تتحدى علناً بل وأن تستغني عن الدور الأميركي. ومعنى ذلك أن مبالغة إسرائيل في تقييد الدور الأميركي خلال أكثر من ثلاثين سنة من المفاوضات المتقطعة، صار بذاته عبئاً وليس ميزة. وتعمد بيريز أن يزور مبارك في شرم الشيخ في وقت حرج قبل أسبوعين فقط من الانتخابات الرئاسية الأميركية. وكأنه أراد أن يقول إن إسرائيل لا تنتظر نتائج هذه الانتخابات وأنها ستتصرف بشكل مستقل وفقاً لمصالحها. ويجب أن نضيف لذلك أن بيريز أراد أن يقول للمرشح الأوفر حظاً في الانتخابات الرئاسية الأميركية أنه لا يريد منه حال انتخابه أن يلعب دوراً مماثلاً للدور الذي لعبه كلينتون في دبلوماسية التسوية في الشرق الأوسط. وربما يعود ذلك إلى أنه يثق في باراك أوباما أقل بكثير أو أن اللوبي الإسرائيلي واليهودي لم يكن القوة التي تقف خلف انتخاب الرئيس الأميركي هذه المرة أو أنه لا يريد دوراً أميركياً نشطاً بغض النظر عمن ينتخب رئيساً. ويلفت النظر أيضاً أن بيريز يعود لمبارك وهو يتحدث عن السلام الشامل وعن فرصة نادرة يجب ألا تضيع. وهذا بحد ذاته يعد أمراً مهماً إن لم يكن عجيباً. فمنذ فترة طويلة خسرت مصر دورها كلاعب أساسي في سياسات التسوية. كما أنها ومن خلال المفاوضات مع سوريا لم تعد تعتبر مصر بوابتها للعالم العربي ولا متكأ سياستها الاقليمية. وسوريا ذاتها بدت وكأنها تقول إنها تستطيع التصرف بأوراقها الخاصة مع إسرائيل دونما أدنى حاجة لوساطة مصرية أو دور مصري. ولم تقم مصر نفسها بمبادرة كبيرة لإطلاق عملية تسوية سياسية ودبلوماسية منذ فترة طويلة. وربما تمثل العودة لمصر أمراً خاصاً ببيريز الذي حقق أفضل نجاحاته وهو يفاوض المصريين وصولاً إلى اتفاق كامب ديفيد. وربما يكون التفسير هو أن سوريا لم تلتزم بعد بشيء تجاه تسوية تحدث اختراقاً كبيراً في الوضع في المنطقة. وربما يكون التفسير هو أن مصر لا زالت فعلاً هي المفتاح الأساسي للتسويات السلمية، وخاصة على الجانب الفلسطيني. أما التفسير الأقرب للمنطق فهو ما قاله بيريز حول المبادرة العربية. فهو يريد سلاماً وعلاقات طبيعية مع الدول العربية كافة. ومصر هي مفتاح التطبيع على المستوى العربي، وخاصة إن احترم بيريز ما التزم به حول قبوله للمبادرة العربية. أمور كثيرة تجري في المنطقة ولا يجري شيء على الإطلاق. عجبي.