المراقب لاتجاهات الفكر العربي الشاب في الفضاء الإلكتروني، وأحياناً في الصحافة المطبوعة، يصدم من قوة الأسطورة التي تتنبأ بانهيار المجتمع الأميركي تحت ثقل الأزمة المالية والاقتصادية وما يضطرم فيها من عوامل تنسب إلى المجتمع الأميركي. هنا يختلط اليمين واليسار، ويختلط العقل الديني بالعقل القومي... وتتداخل الأمنيات المتعجلة بمراصد بدائية حول مؤشرات تطور أزمة أميركا. كما يختلط ويتداخل الرفض للرأسمالية الاحتكارية بالنفور من سياسات الدولة الأميركية في منطقتنا وفي العالم، والكراهية للعولمة والحساسية التاريخية تجاه الغرب. وحقيقة الأمر أن هذا الخلط وهذا النفور لا يخصنا وحدنا، بل هو عميق الجذور في الغرب نفسه وداخل الولايات المتحدة أيضاً. إن أسطورة انهيار الحضارة الغربية أو سقوط الغرب، تمثل إحدى الروايات الفلسفية الكبرى والتي تتلاقى حولها نزعات فلسفية ورومانتيكية، مختلفة من "جيون" المؤرخ الذي رصد انهيار الحضارة الرومانية إلى "شوبنهور" الفيلسوف الذي نفض يده بيأس من مادية الحضارة الأوروبية، إلى "نيتشه" الذي أدان افتقارها في ظنه للشجاعة. لكن أسطورة انهيار الحضارة الغربية أو الرأسمالية أو العولمة أو أميركا، أو هذه جميعها، تستمد من النقد الفلسفي عميق الجذور في الغرب نفسه، أما عندنا فهي مستمدة من مصادر مختلفة تماماً ليس للفلسفة ولا للعلوم الاجتماعية فيها دور يذكر، وأكثرها سياسي أو إيديولوجي نصف "مطبوخ"، وهو ما يجعل مناقشة توقعات الانهيار مسألة مهمة في إطار التثقيف الذاتي للفكر العربي وللمثقفين الشباب العرب بالذات. وإن ذهبنا مباشرة لأهم صياغة لأسطورة الانهيار من الناحية السياسية قد نفاجأ بأن الجذور الحقيقية للقول بانهيار المجتمع الأميركي هي نظرية روجت لها "القاعدة"، وتقول النظرية إن "القاعدة" كانت وراء انهيار الاتحاد السوفييتي وهو يماثل الحضارة الفارسية الشرقية، وأنها ستكون وراء انهيار الولايات المتحدة وهي تماثل الحضارة الرومانية الغربية، وبذلك ينفتح العالم أمام انتصار الإسلام مرة ثانية، بدءاً من أفغانستان! وبالطبع قد تسهم توقعات نظرية أخرى، بعضها علماني ماركسي مثلاً، في إشاعة أسطورة انهيار المجتمع الأميركي لكن من منظور انهيار الرأسمالية... وفي هذه الحالة الأخيرة قد يحدث أن نناقش مؤشرات وظواهر تاريخية محددة حيث يمكن الوصول إلى نتائج أكثر دقة، وعلى سبيل المثال فالمفكر الماركسي المعروف سمير أمين يكتفي بنبوءة انهيار الليبرالية الجديدة ودخول المجتمعات الرأسمالية المتطورة مرحلة الرأسمالية المرشدة أو المقيدة أو العقلانية. وإن تركنا المفكرين الكبار مثل أمين وكاستيلاس وتبراس، وهم من أعمدة الماركسية والاقتصاد السياسي المعاصر، فسوف نفاجأ بأعداد كبيرة من الماركسيين الشباب الذين يسجلون أفكارهم في مواقع إليكترونية ومجلات نظرية كثيرة تعبر عن اليسار الأميركي والأوروبي، وهؤلاء ينتظرون نوعاً من "الانتقام التاريخي" من الرأسمالية الأميركية موازياً للانتقام التاريخي من الاشتراكية السوفييتية الستالينية. وقد شبهنا هذه "المشابهة" التاريخية لأن مناقشتها تقودنا إلى توقعات أكثر عقلانية وواقعية، وحقيقة الأمر أن هذه المشابهة هي حزمة فارغة ولا تتضمن أية أركان مادية أو ثقافية على الإطلاق، فالانهيار السوفييتي الكبير نهاية عام 1991، وقع بفعل عملية تراكمية طويلة الأجل ترافق فيها إفلاس الشمولية السياسية وشدة الجمود البيروقراطي والمصادرة المنهجية لآليات الإصلاح من داخل وخارج دولاب الدولة، مع الانفصام المتزايد والشامل بين الحقيقي والزائف، بين المواطن والدولة، بين الواقع والأيديولوجيا... وعلى وجه التحديد كان الانهيار حتمياً بسبب ثلاثة دوافع رئيسية: الأول هو أن الدولة كانت هي العامل الوحيد الذي يربط المجتمع، والثاني هو الاتجاه طويل المدى لهبوط معدل النمو في الاقتصاد السوفييتي وسيادة "النمو السلبي" منذ نهاية الستينيات، والثالث هو الاقتناع المتزايد داخل نخبة الدولة ذاتها باستحالة الاستمرار في ممارسة سياسات تقوم على تقديرات أيديولوجية زائفة تماماً للواقع، بما في ذلك مدى تشعب الفساد في المجتمع السوفييتي نتيجة الفارق المتسع بين مستويات الأجور الحقيقية وتكلفة المعيشة الحقيقية حتى بالأسعار الرسمية من ناحية ثانية. وحقيقة الأمر أنه لا يوجد شيء في الأزمة المالية والاقتصادية الحالية في أميركا يشي بوجود هذه العوامل. فأولاً وهذه مسألة حاسمة، الدولة ليست القوة الوحيدة التي تحقق الانسجام أو تقود المجتمع الأميركي، بل إن الدولة الفيدرالية هي أضعف هذه العوامل. وتتمتع الولاية والمؤسسات التحتية، من المقاطعة إلى المدينة، بدور كبير. كما أن حس المجتمع (sense of Commty) كبير وعميق ومتجذر ثقافياً وإن كان تراجع بعض الشيء كما تشير الدراسات. ومن ناحية ثانية فإن الأزمة الاقتصادية والمالية الراهنة ربما تضعف الحكومة المركزية بحكم المديونية الكبيرة، بل وتضعف بعض الولايات وخاصة ولاية مثل كاليفورنيا. لكن الأزمة المالية للدولة الأميركية لا زالت بعيدة جداً عن أن تعجزها عن دفع الرواتب والأمور المستحقة لموظفيها أو حتى تفشلها في تحقيق درجة معقولة من الضبط والربط لموظفيها مثلما حدث في المجتمع السوفييتي الذي شاع فيه الفساد والغياب عن العمل إلى حد مرض قبل عقدين على الأقل من الانهيار الكبير. أما المسألة الحاسمة، والتي تنأى بأميركا عن انهيار سريع مماثل لما حدث للاتحاد السوفييتي عام 1991، فهي نشاط وفعالية النقد والجدل الاجتماعي والسياسي. لا نقول هنا إن الديمقراطية الأميركية تعمل بصور جيدة. ويدرك الأميركيون قبل غيرهم أن نظامهم الديمقراطي يعاني أزمة عميقة وطويلة ظهرت بصورة فاضحة في عصر بوش الابن، لكن الخلل السياسي لم يصل بعد إلى مستوى يعمي فيه النفاق الناس عن الحقيقة، أو يضع الوعي الزائف محل التقدير الموضوعي للأمور، أو أن الجمود واليأس أوقفا النقاش العام أو شلاه. وبالطبع فإن أميركا لهذه الأسباب لم تعان كثيراً من "المسألة القومية" مثلما عانى الاتحاد السوفييتي... ورغم أن التوسع الأميركي كان إمبراطورياً، وبالذات خلال القرن التاسع عشر، فإن بنية المجتمع الأميركي الراهن ليست بأي حال بنية مجتمع إمبراطوري يسود فيها النمو غير المتوازن أو الفوارق الهائلة في مستويات التطور، مثلما كان عليه الحال في الاتحاد السوفييتي. لكن هل يعني ذلك أن المجتمع الأميركي سيتغلب على الأزمة دون إصابات كبيرة. الحقيقة أنه يعاني بالفعل ومنذ فترة طويلة من انقسامات وشروخ كبيرة، وأهم تداعيات الأزمة الاقتصادية الحالية هي تعميق الشرخ الرئيسي وتنشيط التباعد والفرز بين ما يكاد يكون مجتمعين منفصلين: المجتمع الليبرالي في الولايات الشمالية الشرقية وبعض مناطق الساحل الغربي، والمجتمع المحافظ في الجنوب وفي داخل الحزام الإنجيلي، وقد نتابع شرح هذه المسألة.