عودة إشكالية "الاندماج" في فرنسا... ومسألة العِرق واللون في أميركا سجال داخلي فرنسي حول "إهانة" شبان من أصول مهاجرة للنشيد الوطني الفرنسي، واتساع النقد للخطط الأوروبية المتحمسة لإنقاذ البنوك من تداعيات الأزمة المالية، والتحديات والاستجابات التي تنتظر أوباما فيما بعد "الفوز"، موضوعات ثلاثة نعرض لها بإيجاز ضمن جولة سريعة في الصحافة الفرنسية. صَفير سياسي... سؤال الولاء والانتماء: ما زال السجال المتعلق بالصفير الذي قاطع به "مشجعون" النشيد الوطني الفرنسي المعروف بـ"المارسييز" في ملعب "ستاد دوفرانس" لحظة انطلاق المباراة الودية بين تونس وفرنسا يوم الثلاثاء الماضي، يستحوذ على الكثير من اهتمام كُتاب افتتاحيات وصفحات رأي الصحف الفرنسية، لجهة دلالته على أزمة الاندماج والهوية في صفوف الشبان الفرنسيين من أصول مغاربية. في صحيفة لوفيغارو كتب جان توماس ليزيير مقالاً بعنوان: "ستاد دوفرانس: صفير لا يقول شيئاً" انتقد فيه طريقة التعاطي الرسمي التهويلية مع الحدث من قبل الحكومة التي استغلته للتشكيك في ولاء وانتماء الشباب ذي الأصول المهاجرة، ما فوت فرصة فهم خلفيات هذا الحدث المستهجَن فرنسياً، والذي يتكرر منذ سنة 2001 كلما كانت هنالك مباراة بين فرنسا ومنتخب مغاربي. ويرى الكاتب أن معنى هذا الصفير المشاغب ضد رمز وطني سيادي فرنسي بحجم النشيد الوطني يكاد يتطابق مع الدلالات التي أشَّرت إليها أحداث الضواحي سنة 2005. فالرسالة في الحالتين هي تأكيد لإخفاق نموذج الاندماج في المجتمع الفرنسي، وقيمه الجمهورية التي أريد لشباب الضواحي أن يتمثلها. وهؤلاء الشبان، سواء أكانوا فرنسيين أم مهاجرين، لا يقاطعون النشيد الوطني الفرنسي لأن ولاءهم لوطن آخر، وإنما يفعلون ذلك نتيجة لحالة الإحباط الكبيرة وخيبة الآمال العريضة التي تجتاحهم، فيعبرون عنها بطريقة احتجاجية فوضوية، وغير مطلبية. وفي السياق ذاته رصدت افتتاحية لصحيفة لوموند حجم التشنج والشعور بالضيق الذي أبداه الرئيس نيكولا ساركوزي وأعضاء في الحكومة تجاه هذا الحدث. معتبرة أن توصية أحد وزراء الدولة بإلغاء أية مباراة يطلق قبلها صفير الاستهجان للتشويش على النشيد الوطني، لا تحل المشكلة، وإنما قد تخلق مشكلة أكبر حيث يتوقع أن ينخرط الجمهور في أعمال عنف لدى خروجه خائب الأمل من الملعب. هذا إضافة إلى تجذر أزمة الهوية في أعماق الضواحي، وإلى فشل ما اتخذ حتى الآن من خطوات لتعويم جيل كامل من شبابها ضمن الدورة الاقتصادية، والتيار الاجتماعي، والقيم الجمهورية المشتركة والمؤسسة للنموذج الاجتماعي السياسي الفرنسي. كما انتقد دومينيك كينيو في افتتاحية "لاكروا" بعض ما صدر من اقتراحات لمعالجة هذه القضية الوطنية الحساسة، مطالباً بعدم تحميل المسألة أكثر مما تحتمل، وذلك لأن إلغاء المباريات سيكون نوعاً من العقاب للجمهور الرياضي العريض، وهو ما يذهب إلى طرح قريب منه أيضاً دانيل رويز في افتتاحية لـ"لامونتان" أكد فيها أن تكريس وترسيخ الوعي الوطني بالانتماء لفرنسا يتم من خلال تعليمه والتحسيس به في المدارس أو وسائل الإعلام وسواها من طرق التنشئة وليس بالوسائل القسرية أو العقابية التي يلوح بها بعض مسؤولي الحكومة. الأزمة المالية... والاستجابة الأوروبية: إحالةً على الأزمة المالية قال لوران جوفرن في افتتاحية بصحيفة ليبراسيون إن الحكومات الأوروبية التي خصصت 1700 مليار "يورو" لإنقاذ البنوك عليها أن تعرف الآن كم ستخصص لإنقاذ الشعوب. والعجيب أن هذه الحكومات التي طالما تحججت بأنها لا تجد أموالاً تصرفها لمساعدة طوابير العاطلين عن العمل وجدتها الآن وبأريحية لإخراج مديري البنوك من ورطتهم المالية! فمن كان يصدق أن حكومات تتجاهل معاناة الطبقات الشعبية الهشة بشكل مزمن تخف الآن ودون تحفظ أو تردد للوقوف إلى جانب البيروقراطيين المصرفيين الفاشلين؟! والأعجب من هذا كله العناد الغريب من قبل متعصبي الليبرالية اللامحدودة لاعتبار مزيد منها حلاً وحيداً لأزمة تسببت هي نفسها في اندلاعها أصلاً. أما الكاتب بيير آنجل فقد ركز في افتتاحية "لاتريبين" على ما برهنت عليه الأزمة المالية وممهداتها الزمنية من ضرورة عودة التدخل الحكومي القوي في مسار الدورة الاقتصادية والمالية في المجتمعات الرأسمالية. فقد أصبحت السياسات اللاتدخلية المعتادة في الخطابة الليبرالية تبدو اليوم كما لو كانت إيديولوجيا متجاوَزة وبائدة. ويرى الكاتب أن أكثر طرف تضرر -ثم استفاد- من الأزمة المالية الحالية هو البنوك ذات الصبغة العولمية الشمولية متعدية الجنسيات. أما المؤسسات الاقتصادية والشركات الصغيرة ومحدودة السوق فلعل الأيام تحمل لها حظاً سعيداً في المستقبل، وأما الأزمة المالية القائمة الآن فلن تنال منها سوى صافي خسائر وفائض تضحيات. وأخيراً أعادت افتتاحية أخرى كتبها باتريك لوياريك في صحيفة "لومانتيه" سؤال الدوافع وراء حماس الحكومات الأوروبية لإنقاذ النظام المصرفي وتنكرها لالتزاماتها الاجتماعية تجاه شعوب القارة. وانتهى كاتب افتتاحية صحيفة الحزب الشيوعي الفرنسي إلى أن مكمن الفشل الاقتصادي العالمي اليوم، الذي لا يريد أحد الاعتراف به، هو طبيعة النظام الرأسمالي نفسه. وأزمة هذا النظام الهيكلية تحتم فتح حوار عالمي للتفكير في إيجاد مسار من الإصلاحات والتغييرات الجذرية في نظام المجتمع والعالم، على حد سواء! أوباما... من الرمز إلى الواقع: تحت هذا العنوان خصصت لوفيغارو افتتاحية للتحديات الجسام التي قد يجد المرشح "الديمقراطي" باراك أوباما نفسه قريباً مضطراً لاجتراح استجابات سياسية إبداعية في مواجهتها. ولئن كانت استطلاعات الرأي والمؤشرات السياسية المختلفة مثل المناظرات التلفزيونية الثلاث كلها ترجح بقوة فوزه في استحقاق 4 نوفمبر المقبل، إلا أن المعركة ما زالت لم تحسم بعد. ومع ما يعنيه انتخاب أوباما المحتمل من تغير بالغ الدلالة في عقلية أقوى دولة في العالم، إلا أن المسألة العرقية ولون سيناتور "إلينوي" الأسود، يبقيان مع ذلك هما المسكوت عنه الكبير في سجالات الحملة الانتخابية. فأميركا المتسمة بحساسية المسألة العرقية في قطاعات واسعة من شعبها، إضافة إلى قرب عهدها بثقافة وممارسات التمييز العرقي، ستثبت إن هي أوصلت المرشح الأسود إلى البيت الأبيض أنها قد قطعت فعلاً مع ذلك الماضي المظلم، وأنها، تالياً، شفيت من أعراض "متلازمة بريدلي" -اسم مرشح أسود لمنصب حاكم كاليفورنيا سنة 1982 يقال إنه نجح فعلياً في الاقتراع ولكنه هزم بطريقة ما في النهاية نتيجة الموقف المسبق من لونه. والحال -يقول الكاتب- أن أوباما ذا الـ47 عاماً، بما لديه من جاذبية سياسية، وكاريزما خطابية، والذي خاض حملة باهرة ومظفرة ودون أخطاء تقريباً حتى الآن، هو من يستطيع أن يحقق هذا الإنجاز الإنساني التاريخي لبلاده، وللعالم أجمع. ولكن عندما ينجح أوباما في النهاية فهنا سيتعين عليه أن يواجه كماً هائلاً من المشاكل المرحَّلة تنتظره على الطاولة الرئاسية، وفي مقدمتها حربا العراق وأفغانستان وتداعيات الأزمة المالية الخطيرة، التي أغرقت الآن عملياً حملة جون ماكين. ولكن مهلاً، فالحملة لم تنتهِ بعد، ويمكن أن يقع أي حدث يحول مسار اتجاهها في آخر لحظة، تماماً كما وقع لرئيس وزراء إسبابنيا السابق أثنار بفعل تفجيرات مدريد، فخرج خاسراً بعد أن كان نجاحه يبدو كما لو كان تحصيل حاصل. إعداد: حسن ولد المختار