وسط الفوضى المالية، وعدم اليقين الاقتصادي السائدين في الوقت الراهن، يمكنني تبين بعض الملامح الإيجابية للأزمة المالية، التي رجت الأسواق. وهذه الملامح تتمثل في أن هذه الأزمة قد أجبرت الولايات المتحدة، على التخلي عن بعض العادات التي كونتها على مدار العقود القليلة الماضية. وإذا ما استطعنا التخلص من تلك العادات، فإن الآلام التي نعانيها اليوم، يمكن أن تتحول إلى مكاسب على المدى الطويل. اعتباراً من ثمانينيات القرن الماضي، بدأ الأميركيون يستهلكون أكثر مما ينتجون، ويعوضون الفارق بين الاثنين من خلال الاقتراض. وخلال العقدين الأخيرين تحديداً واللذين شهدا ظاهرة النقود السهلة والأساليب المالية المبتكرة، كان بمقدور كل شخص تقريباً في أميركا أن يقترض أي مبلغ من النقود، لأي غرض، ومن دون ضمانات كافية، وهو ما أدى إلى تضخم القروض العقارية من 680 مليار دولار عام 1974 إلى 14 تريليون دولار اليوم. وتشير التقديرات إلى أن كل عائلة أميركية تمتلك 13 بطاقة ائتمان في المتوسط، وأن 40 في المئة فقط من تلك البطاقات بها رصيد، مقارنة بـ 6 في المئة فقط عام 1970. ولكن سلوك الأميركي العادي، مع ذلك، كان أكثر استقامة من سلوك الحكومة الأميركية. فسلطات كل مدينة، وكل منطقة إدارية، وولاية في أميركا، كانت تريد المحافظة على استمرار عمليات التكاثر المالي، دون أن تسعى إلى فرض الضرائب. ولكن كيف كان يمكن لتلك السلطات تربيع الدائرة في مثل تلك الحالة؟ كان يمكنها ذلك عن طريق الإقراض، وعن طريق استخدام أساليب مالية تزداد ذكاءُ على الدوام. ولم يكن الساسة المحليون هم المشكلة الوحيدة وإنما امتد إلى جهات أخرى ذات تأثير مثل الاحتياطي الفيدرالي. ففي عهد" الآن جرينسبان" ظل بنك الاحتياطي الفيدرالي يرفض باستمرار اتخاذ إجراءات مؤلمة. فسواء كانت المشكلات التي يعاني منها الاقتصاد الأميركي ترجع إلى الحرب الباردة مع الروس، أو إلى انخفاض أسعار الفائدة، أو إلى التباطؤ الاقتصادي بعد الحادي عشر من سبتمبر، فإن الحل في نظر الاتحادي الفيدرالي، كان يكمن دوما في المحافظة على استمرار تدفق النقود، وتحفيز الاقتصاد. وقد ترتب على ذلك، زيادة الدين القومي من 3 تريليونات دولار عام 1990 إلى 10.2 تريليون دولار في الوقت الراهن. إن الديون في حد ذاتها ليست بالوسيلة السيئة إذا ما تم استخدامها بطريقة مسؤولة، بل يمكن القول إنها تمثل جوهر نظام الرأسمالية الحديثة. أما إخفاء جبال من الديون من خلال اتباع أساليب مالية معقدة، فليس سوى تحريض على اتباع سلوك مسؤول. في المدى القصير، يجب على الحكومات التي تأثرت بهذه الأزمة والحكومة الأميركية في مقدمتها، أن تتحمل المزيد من الديون، والالتزامات من أجل حل الأزمة الحالية. ولكن ذلك لا يعني أن تلجأ تلك الحكومات إلى تنشيط الاقتصاد، من خلال التوسع في منح الإعفاءات أو التخفيضات الضريبية كما يدعو إلى ذلك بعض الاقتصاديين ، لإن إجراءات مثل هذه لن يترتب عليها سوى استمرار عجلة الاقتصاد دائرة بوسائل اصطناعية فحسب. هناك محفزات اقتصادية أفضل بكثير منها على سبيل المثال التسريع بتنفيذ بعض المشروعات الكبرى، مثل مشروعات البنية الأساسية والطاقة، لأن هذه المشروعات تمثل استثمارات حقيقية ستكون بمثابة إضافة دائمة للاقتصاد، وليست مشروعات استهلاكية لا تضيف شيئاً، بل قد يكون لها جوانب سلبية. على المدى الطويل، يجب العودة إلى الأساسيات ومنها على سبيل المثال أن الحكومات يجب أن تضع الحوافز المشجعة على الادخار. وقد يكون من المفيد هنا أن نتذكر أن الولايات المتحدة كانت تقدم حوافز للمواطنين الأميركيين لتشجيعهم على الاستهلاك ( الرهون العقارية والتخفيضات الضريبية أفضل مثال في هذا السياق) فأصبحوا يمتلكون المنازل الفخمة والسيارات الضخمة ولكن ذلك أدى إلى ما نعانيه حالياً. بناء على ذلك، فإننا إذا ما عملنا على فرض ضرائب على الاستهلاك، وشجعنا على الإدخار، فإننا يمكن أن نتوقع أن ذلك سينجح أيضاً. يجب علينا كذلك، مراجعة القواعد المنظمة لاستخدام بطاقات الائتمان، كي نضمن أن الناس يفهمون المخاطر المتعلقة باستخدامها. من ضمن الجوانب الإيجابية الأخرى التي ستترتب على الأزمة الحالية، أن الحكومة سوف تعمل على معالجة ظاهرة سوء تخصيص الموارد البشرية التي عانينا منها في السنوات السابقة، حيث كان يتم توجيه معظم حاملي درجة الدكتوراة في الرياضيات إلى العمل في مشروعات غير إنتاجية، تتعلق بما يعرف بـ" الهندسة المالية" بدلاً من العمل في مجالات نافعة مثل أبحاث التقنية الحيوية، وتقنيات الطاقة. والمطلوب من الحكومة الآن أن تعمل على توجيه مثل تلك الطاقات البشرية النادرة إلى جوانب أكثر انتاجية، وهو ما سيؤدي في النهاية إلى تحقيق مكاسب صافية للاقتصاد. يجب على الولايات المتحدة أيضاً العمل على اجتذاب المزيد من رؤوس الأموال، وتنظيم شؤونها المالية. وليس هناك من شك في أنها ستكون مضطرة في سياق ذلك إلى اتخاذ قرارات حاسمة تتعلق بخيارات استراتيجية. فنحن لا نستطيع مثلًا أن نستمر في نشر الصواريخ الاعتراضية على امتداد الحدود الروسية، ونجتذب جورجيا وأوكرانيا لـ"الناتو"، ثم نتوقع بعد ذلك استمرار روسيا في التعاون معنا بشأن الملف النووي الإيراني.. كما أننا لا نستطيع الاستمرار في توجيه الانتقادات للاستثمارات الصينية والعربية في أميركا في يوم، ثم نتوقع من الصينيين وغيرهم في اليوم التالي أن يشتروا سندات الخزانة الأميركية... وأننا لا نستطيع الاستمرار في التبشير بالديمقراطية والرأسمالية في الوقت الذي يعاني فيه بيتنا الداخلي من اضطراب خطير. إن تثبيت النظام والانضباط سوف يكون أمرا مؤلماً لدولة وشعب اعتادا على نيل كل ما يريدان، ولكن ليس هناك من شك في أنه إجراء سيؤدي إلى جعلنا أقوى، وأكثر رسوخا في المدى الطويل. --------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"