صرف الكتاب والمراقبون العرب جل اهتمامهم في تفكير رغائبي يبدأ من انهيار الرأسمالية ولا ينتهي بانهيار وتفكك أميركا ذاتها. هذه النظريات والتوقعات مبالغ فيها كثيراً في المديين المباشر والوسيط. وقد تصدق على المدى الطويل من منظور ثقافي وأخلاقي. فالنظام العالمي الذي أعادت أميركا صياغته انحط فعلاً إلى ذهنية وأوضاع العصور الوسطى. وقد يسبب هذا الانحطاط انهياراً حضارياً عالمياً. وقد لا يمكن أبداً أن نلخص نتائج الأزمة في تراجع المكانة الأميركية في النظام العالمي. كما أن الاعتقاد بأن مجرد تراجع المكانة الأميركية ينقذ العالم، مثير للشفقة على أحسن الفروض. فالمشكلة لم تكن أبداً في أميركا ذاتها. بل المؤكد أن أميركا لم تكن وليست حتى الآن أسوأ إمبراطورية كونية. والخبرة الإمبريالية الأوروبية تجعل أميركا ذاتها تبدو أحياناً كملاك للرحمة! المشكلة الحقيقية كانت دائماً في منظومة القيم والأفكار والممارسات التي تشكل "المشروع الثقافي" والسياسي لهذه القوة الإمبراطورية أو تلك. وأميركا قدمت في الفترة التي تولت فيها القيادة منفردة أسوأ مشروع ممكن وهو مشروع يعيد صناعة أنانيتها ومصالحها الثقافية والسياسية كبديل للقانون الدولي الذي كان محط الأنظار باعتباره ترجمة عالمية لمشروع التنوير الأوروبي. والواقع أننا نجد هنا جوهر الأزمة الاقتصادية. فكما أشارت مصادر كثيرة، خططت أميركا من خلال البنك الاحتياطي الفيدرالي للحصول على مدخرات العالم لتنمية ذاتها. وترتب على ذلك توسع كبير في الأقراض وخاصة بعد الهبوط بسعر الفائدة إلى قرابة الصفر. وانتهت هذه الموجة التوسعية اللاعقلانية بانفجار فقاعة الرهن العقاري ومن ثم انهيار المصارف وشركات وصناديق الاستثمار. والواقع -وهذا يشكل جزءاً لا يتجزأ من مساوئ المشروع الأميركي لقيادة النظام العالمي -لا يمكن فهم الأزمة إلا على خلفية النظام المالي العالمي الوهمي والاستغلالي وغير المستقر. ومنذ فكت أميركا الصلة بين الدولار والذهب عام 1974 رفضت بناء نظام مالي عالمي جديد. ولذلك كان أكثر الاقتصاديين يتوقعون أن تثور أزمة بهذه الضخامة وبصورة تتعدى كثيراً النظام المصرفي. فالقضية هي أنه لا يوجد نظام مالي قابل للحياة ولا لدعم الاستقرار في الساحة الاقتصادية الدولية. ومع أن أوروبا واليابان، وربما الصين، سارت على خطى بوش وخطته في علاج الأزمة، فثمة أمران يلفتان النظر. الأول هو أن طريقة إدارة بوش في علاج الأزمة حرصت على تأكيد معنى الانفرادية. فلم تأت الدعوة لعقد اجتماع للدول السبع الصناعية الكبرى إلا متأخرة جداً وهي لم تتم حتى الآن. ويعني ذلك أن أميركا لا زالت مصرة على هذا النمط الواحدي الانفرادي في إدارة أزمة اقتصادية عالمية بطبيعيتها. وحقيقة الأمر أن الانفرادية الاقتصادية كانت سبقت الواحدية السياسية والاستراتيجية كما أعلنتها إدارة بوش منذ بدايتها. فقرار نيكسون بإنهاء قاعدة الذهب كان نوعاً من التجنيب التام للمؤسسات الدولية متعددة الأطراف ولمعنى القرار الجماعي طالما تعارض مع مصالح أميركية ومع قرارات أميركية. ويمكن تصوير هذا القرار باعتباره الضربة الاستباقية الأولى للولايات المتحدة في الساحة الاقتصادية العالمية ضد غرماء وشركاء الاقتصاد، مثلها في ذلك مثل "الضربة الاستباقية" التي انتهت باحتلال العراق رغماً عن المعارضة العالمية. الأمر الثاني هو أن أوروبا انصاعت من جديد للإرادة الأميركية رغم كونها انفرادية. صحيح أن أحجام الموازنات المخصصة لعلاج الأزمات المالية وأزمات البورصات الأوروبية صغيرة للغاية مقارنة بالخطة الأميركية، لكنها تجري في نفس الاتجاه. بل إنها في الحقيقة مجرد دعم للاقتصاد الأميركي أو لخطة بوش أكثر من كونها علاجا لمشكلة أو مشكلات أوروبية حقيقية. وذهب الأوروبيون إلى حد قبول عزل روسيا عن تلك العملية عندما كرروا الدعوة للدول الصناعية السبع بعد فترة قصيرة تعاملوا فيها مع "دول صناعية ثمانٍ". وتهمنا هنا هذه التبعية لأسباب كثيرة. أول هذه الأسباب أن وزن أميركا القيادي لن يتأثر حقيقة في النظام العالمي بمجرد تراجع قدراتها الحقيقية أو أزماتها الاقتصادية. فلكي يتراجع الأميركيون لابد أن يتقدم آخرون. والظاهرة الواضحة هنا هي أن أحداً لا يتقدم. فلا تتوفر الإرادة للأوروبيين للحلول محل أميركا في قيادة النظام الدولي ولا حتى في إغضاب أميركا. بل الصحيح هو العكس، بمعنى أن الأوروبيين بمن فيهم الفرنسيون، يريدون استمرار إغراء أميركا بالقيام بالدور القيادي شبه الانفرادي الذي تقوم به وخاصة على المستوى الاستراتيجي العسكري. أما الصين وهي المرشح الأقوى لوراثة الدور القيادي الأميركي فهي لا تزال بعيدة جداً عن صياغة مشروع عالمي له قاعدته الثقافية والسياسية والاستراتيجية والأخلاقية. وهي لم تبد حتى الآن ولا مجرد لفتة تشير ولو مجازاً، لاهتمامها بتبني منظور عالمي سواء فيما يتعلق بعلاج الأزمة الاقتصادية وهي من صميم مصالحها ولا بالطبع ما يتعلق بالتشكل السياسي للعالم. روسيا في وضع مأزوم ولا زالت تناضل كي تجد لنفسها موطئ قدم. لكنها تقوم بردود أفعال عصبية لفشل استراتيجيتها في الحصول على موقع في النظام العالمي بإرضاء الأميركيين! وأقصى ما تقوم به الآن هو مضايقة الأميركيين هنا وهناك وليس التقدم بمشروع بديل للنظام الأميركي. وبالطبع فالقدرات الاقتصادية الروسية لا زالت بعيدة جداً عن أن تسند القوة العسكرية الروسية. وثاني هذه الأسباب أن الأمر سيتوقف إلى حد بعيد جداً على مستقبل أميركا السياسي في الداخل. فمن الواضح أن ثمة إرادة سياسية لدى قطاع لا بأس به من النخبة الأميركية لإنتاج سياسات ومواقف مختلفة عما قدمه الجمهوريون والأصوليون في عهد بوش الابن. وترشيح باراك أوباما يحمل هنا أكثر من دلالة؛ منها محاولة التقرب لأوروبا والعالم، محاولة إضفاء وجه إنساني على التوجهات الأميركية، ومحاولة تخطي الإرث العنصري والأناني المميز للثقافة السياسية الأميركية منذ بدايتها وصولاً إلى بلورة مشروع ليبرالي أميركي جديد. وأهم نتائج الأزمة الحالية بالمعنى المباشر يتضح في نتائج الانتخابات الأميركية. فإن فاز أوباما قد تكون لدى الأميركيين فرصة لإنتاج نمط جديد من القيادة العالمية ولو في موضوعات وقضايا دون غيرها. البديل قد يكون شيئاً يشبه ما حدث في الحرب العالمية الثانية. فقد كانت الحرب جانباً أساسياً من الأجابة الأميركية على الأزمة الاقتصادية في ثلاثينيات القرن العشرين. وقد يحمل ماكين في حالة انتصاره، مشروعاً حربياً متكاملاً كرد فعل للأزمة. لكن المشكلة التي لابد ستواجه ماكين والأميركيين عموماً هي أن الحرب في السياقات الحالية صارت تعزز الميل للتحلل وليس التقدم. فالتحدي الذي يواجه الأميركيين اليوم لا يماثل في شيء تحدي الهتلرية. بل هو تحدٍ من الذات الأميركية للذات الأميركية وهو يشبه محاولة وقف سيل منهمر من الأنانية بسد بسيط من الرمال. لذلك قد تغرق أميركا في عقلية رجعية وعنيفه بأكثر كثيراً مما شهدناه حتى الآن. وفي تقديري أن هذا سيكون الأثر السياسي الأسوأ للأزمة.