أصبح من الشائع الآن أن نسمع كثيرين يعربون عن خشيتهم من أن تكون الأزمة الحالية في "وول ستريت" هي بداية نهاية الرأسمالية الأميركية كما نعرفها. من هؤلاء السيناتور "جيم بيرننج"(جمهوري- كنتاكي) الذي قال يوم الثلاثاء:" إن القيام بعملية إنقاذ ضخمة ليس هو الحل... لأنها نوع من السياسات المالية التي تنتمي إلى الاشتراكية علاوة على أنها غير أميركية". في رأيي أنها لا هذا ولا ذاك. ليس هناك شك، أن الأزمة التي تعرض لها النظام المالي للولايات المتحدة والذي كاد يوشك على السقوط، وتدخل واشنطن المفاجئ والكبير لدعمه، يمثل نقطة تحول حاسمة. ولكن يجب علينا أن ندرك أن الإنقاذ المالي كان هو الخطوة الطبيعية التالية- الأميركية مئة في المئة- التي كان يجب علينا أن نخطوها لإنقاذ نظامنا الاقتصادي، كما أنها هي أيضا الخطوة التي ستقودنا إلى مستقبل أفضل. الرأسمالية تتطور باستمرار، ويجب أن نعرف مسارها الصحيح، إذا كنا نريد حقاً أن نوجد قدراً أكبر مع التناغم بينها وبين أعظم مصدر للقوة الأميركية وهو مبادئ ديمقراطيتها العظيمة. علينا أيضاً أن نعرف أن نظامنا الاقتصادي لا يمثل نموذجاً واضحاً لقوى السوق غير المقيدة على الإطلاق. فهو ليس كذلك، ولم يكن كذلك في أي وقت. ففي خطابه الوداعي، عام1796، عرّف "جورج واشنطن" المنطق الاقتصادي لأميركا بقوله:" يجب أن تكون سياستنا المالية عادلة ومحايدة... لا تسعى إلى، ولا تمنح، حقوقاً وامتيازات خاصة، وتهتدي بالمسار الطبيعي للأشياء، ولا تفرض شيئاً". الرأسمالية ليست هي الكلمة المناسبة لوصف النظام الذي تخيله "واشنطن"، ولعل مصطلح" النظام الأميركي" الذي بدأ الناس في استخدامه بعد مرور عقود أكثر ملاءمة لوصف ذلك النظام. وقد يكون من الأفضل أن نطلق على تلك المبادئ التي ضمنها واشنطن خطابه الوداعي مسمى"الديمقراطية المالية"، وأقصد بها النظام المالي الحر بشكل عام، الذي ينحصر فيه دور الحكومة الأميركية في مساعدة المواطنين على إطلاق طاقاتهم المكنونة باستخدام كافة الأسلحة الاقتصادية، التي يمكن لترسانتنا المالية توفيرها. بناء على هذا التعريف هل يمكننا القول إن عملية الانقاذ المالي التي تضطلع بها الحكومة تعد مفارِقة لما كان متبعاً. بالكاد يمكن أن نقول ذلك. فالتدخل الفيدرالي الحالي يهدف إلى القيام بعملية إنقاذ مالي، هي في حقيقتها إجراء مؤقت تماماً، يهدف إلى الحيلولة دون وقوع كارثة اقتصادية تطال مختلف جوانب النظام. وهذه العملية تتماشى تماما مع مبادئنا، طالما أن ذلك الإنقاذ المالي يؤدي إلى تعزيز الديمقراطية المالية. يجب علينا ألا ننسى في هذا السياق أن مؤسسة" فاني ماي" للتمويل العقاري، كانت في الأصل كياناً حكومياً، وأن استحواذ الحكومة الفيدرالية عليها ما هو إلا إعادة للأمور إلى نصابها. لذلك أنصح الجميع بأن يلتقطوا أنفاسهم، لأن ما قامت به الحكومة ليس تحولاً عن النظام المالي القائم، ولا يمثل أي تغير رئيسي في الطريقة الأميركية لتحقيق الرخاء. وتغيير تفكيرنا بخصوص بعض النواحي المالية لا يعني إلغاء الرأسمالية كلها، بقدر ما يثير أسئلة حول ما تعنيه تلك التغيرات، وما الذي يمكن أن نتعلمه منها؟ يجب أن نتعلم الكثير. فالأزمة الحالية تقدم لنا فرصة فريدة لإجراء عملية إعادة تقييم جوهرية لمستوى أمان المؤسسات المالية الرأسمالية، وقدرتها على الاستمرار، وهما شيئان كنا نأخذهما دائماً على أنهما أمر مفروغ منه في بيئتنا الاقتصادية الوطنية. فعلى مدار الأسابيع القليلة المضطربة، تعلمنا أن بنوك الاستثمار الضخمة معرضه للانهيار يوماً ما، وأنه يمكن أن تختفي تقريباً من المشهد، أو يتم استيعابها في بنوك أخرى. كما تعلمنا أيضاً أن الأداة التي نطلق عليها "نقود"، ونفترض أنها آمنة تماماً، قد لا تكون كذلك بالضرورة. وما نفعله الآن، هو أننا نبحث حولنا عن شيء آخر، يمكن لنا الوثوق به. ويجب في هذا السياق أن نكون على استعداد لتقبل مجموعة أخرى من الترتيبات المالية- تمثل ديمقراطية مالية أفضل- قد تساعدنا على استرداد الثقة العامة في المبادئ الاقتصادية، التي كانت تعتنقها واشنطن منذ قرنين تقريباً. وإليكم بعض السمات الرئيسية لمثل تلك الأشياء التي نبحث عنها. أولا: التعامل مع "الخطر الأخلاقي" بطريقة أفضل: مصطلح "الخطر الأخلاقي" يشير إلى الميل الخبيث لدى بعض الناس إلى السقوط عمداً، إذا ما اعتقدوا أن ذلك قد يكون في مصلحتهم. ومفهوم الخطر الأخلاقي يستخدم لتبرير إنزال العقاب بالناس بسبب الاخطاء التي وقعوا فيها، وجعلهم يدفعون ثمن هذه الاخطاء. لقد كان لدينا مثلاً في السابق سجون نزج فيها بالأشخاص الذين يعجزون عن سداد ديونهم. ولكن الأميركيين- لحسن الحظ أصبحوا أكثر واقعية- بشأن التعامل مع العقود المالية، وبشأن عدم توجيه اصبع الاتهام في الأزمات المالية للأشخاص المدينين تعساء الحظ فقط. وبقيامنا بإنقاذ بنوك "وول ستريت" العملاقة التي خضعت لإغراء الفقاعة العقارية، فإن البعض ينظر إلى عملية الإنقاذ هذه في حد ذاتها على أنها تمثل خطراً أخلاقياً. ونحن نستطيع تجنب ذلك الخطر من خلال تصميم أنواع جديدة من العقود المالية تضع في حسبانها مبادئنا العظيمة ومبادئ الاستنارة العقلية التي اكتسبناها عبر الأجيال، كما تضع في حسبانها أيضاً الطبيعة البشرية، والوسائل الأفضل للتعامل مع الأخطاء المالية. ثانياً، ربط المخاطر بالنظام وبناء "مشتقات مالية" أفضل (المشتقات المالية هي عقود فرعية مشتقة من عقود رئيسية لأدوات استثمارية تتمثل في اوراق مالية أو عملات أجنبية أو سلع ويترتب عليها حقا لطرف والتزاما لطرف آخر). لقد تبين أن بعض "المشتقات المالية" المستخدمة في عالم اليوم( مثل الحزمة المعقدة للقروض العقارية التي أدت إلى سقوط ليمان براذر)، قد تحولت إلى أسلحة دمار شامل مالية. والحقيقة أن المشكلة لا تكمن في مفهوم المشتقات المالية ذاته، وإنما تكمن في نوع معين من تلك المشتقات الذي يؤدي إلى تعريض نظام البورصات والمبادلات المالية لخطر داهم. واعتقد أن الوقت قد حان لإعادة تصميم المشتقات المالية لتجنب التعرض لكوارث هائلة. ثالثاً: الثقة في الأسواق، وليس في عمالقة وول ستريت: على الرغم من أن بعض المؤسسات المالية لها سمعة مدوية وجاذبية طاغية مثل "ميريل لينش" و"ليمان براذر"، فإن الأزمة الأخيرة يجب أن تعلمنا أن نثق في الناس وفي الأسواق أكثر مما نثق في المؤسسات الشهيرة، بشرط أن نعمل على تطوير الأسواق وتحصينها ضد كافة أنواع المخاطر. رابعاً : الأفكار مهمة وليس التطبيق فقط. يجب علينا أن نستمع أكثر للمنظرين وللمفكرين الاقتصاديين الذين يفكرون بشكل مجرد، ويركزون على التفكير في أساسيات إدارة الخطر أكثر من استماعنا لرجال الأعمال الذين حققوا ثروات طائلة. ولو كنا قد استمعنا أكثر إلى المنظرين والخبراء، وأقل لرجال الاعمال وحيتان السوق الكبار، لكنا اليوم في وضع أفضل بكثير مما نحن عليه الآن. ما نحتاج إليه هو مناقشة إدخال تحسينات في اقتصادنا المعاصر، وتحسين البنية التحتية للمعلومات المالية، وتوسيع نطاق السوق، وتحسين وسائل وأدوات تجارة التجزئة في الأيام القادمة والاتفاق على مبادئ عامة بشأنها. إذا ما تحركنا بشكل ذكي، فإنه سيكون بمقدور الأميركيين امتلاك ديمقراطية مالية أفضل، وأقوى، وأكثر التزاماً بالخطوط الذي رسمها أول رئيس للجمهورية الأميركية. إن الأزمة الحالية لا تعني نهاية الرأسمالية الأميركية، ولكنها ستمثل- إذا ما كنا محظوظين حقا- خطوة مهمة على طريق تطورها. ـــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"