يبدو أن سارة بالين تحب ترديد كلمة "استثنائية"، فأمام حشد شعبي بولاية نيفادا، قالت المرشحة الجمهورية لمنصب نائب الرئيس "إننا أمة استثنائية"، ثم أضافت "أميركا بلد استثنائي"، وفي حال فات أحدهم ما قالته كررت مرة أخرى على أسماع الحضور: "إنكم جميعاً أميركيون استثنائيون". هذا التركيز الشديد من بالين على موضوع الاستثناء الأميركي يدفعنا حتماً إلى الاعتقاد بأن القضية الأساسية في الانتخابات الرئاسية تنصب حصراً على الخصوصية الأميركية دون غيرها. لكن مع الأسف اتخذت في الآونة الأخيرة فكرة الاستثناء أو الخصوصية الأميركية مساراً انحرف بها عن مفهومها الأصلي، حيث تحولت إلى ملاذ آمن لأميركا الغاضبة التي لا تريد رؤية الواقع العالمي المستجد. وهكذا انتقل مفهوم الاستثناء الأميركي من عاملٍ لنشر الحرية في العالم إلى قلعة منغلقة على نفسها يخشى أصحابها من تهديد العالم، أو يسعون فقط إلى الانكفاء على الذات والإغراق في المحلية بدل الانفتاح على العالم. لكن خلف هذه الخصوصية المشوهة التي يمكن أن نربطها بالمرشحة بالين التي أعادت اكتشافها، يكمن الغضب الأميركي الذي بدأ في التنامي خلال الفترة الأخيرة بعد تزايد مظاهر التدهور الأميركي، سواء تعلق الأمر بتدني الدخل، أو انهيار الأسواق، أو تصاعد الدين الأميركي، فضلًا عن بروز مراكز جديدة للثروة والسلطة من شنغهاي إلى دبي. هذا الاستياء الأميركي والغضب المتأجج إزاء عالم بات يسبقنا، تنامى بسبب الحديث المتضخم عن الاستثناء أو الخصوصية الأميركية التي عجزت عن التأقلم مع حقائق القرن الحادي والعشرين. فإلى أي حد تستطيع الأمم أن تكون استثنائية في الوقت الذي تستدعي فيه معالجة مشاكلها الملحة، بدءاً من الإرهاب والانتشار النووي وانتهاء بأسعار الطاقة، جهوداً عالمية مشتركة؟ لكن مع ذلك تصر بالين في خطبها، ومن ورائها المرشح الجمهوري ماكين، على مسألة الخصوصية الأميركية، بحيث يتم التركيز على أميركا المختلفة، بتقاليدها ومواقفها وقيمها ونمط عيشها ونظامها السياسي والحقوقي... فهي مختلفة حتى عن العالم المتقدم نفسه! بهذا المعنى تصبح أميركا أكثر أيديولوجية من باقي البلدان، وأكثر إصراراً على قدرها المتفرد في العالم، والذي تهتدي به الشعوب! لكن لنواجه الحقيقية؛ فمن بغداد إلى بنك بير ستيرنز، تعلمت أميركا على مدار الثماني سنوات الماضية درساً قاسياً في انحراف الخصوصية وخروجها عن المسار الصحيح. فالإصرار على تجذير الاختلاف الأميركي بدلاً من التواصل مع العالم والاندماج فيه، ستكون له عواقب وخيمة على بلد يخوض حربين ويشهد انهياراً مالياً غير مسبوق منذ عام 1929، فضلاً عن تضخم أسعار السلع، وانتقال الموارد إلى الشرق الأوسط. لكن حان الوقت لنقول كفى، ذلك أن النقلة الحقيقية اليوم هي من عالم الحرب الباردة إلى العالم الجديد، من عقيدة التدمير المتبادل إلى التواصل المتبادل، ومن هيمنة السياسة إلى غلبة التكنولوجيا. وهو ما يعيدنا إلى النقاش الذي مازال مقرراً بين أوباما وماكين يوم الجمعة حول السياسة الخارجية، والذي يضع عالمية أوباما في مواجهة خصوصية ماكين. فعلى صعيد الديمقراطيين لدينا مرشح بنى حملته الانتخابية على الإنترنت ويؤمن بأن أميركا لديها ما تتعلمه من العالم، ولا يتردد في القول إنه مواطن فخور بأميركيته، لكنه مواطن عالمي أيضاً. وفي المقابل على الجانب الجمهوري لدينا مرشح بدأ لتوه في عام 2008 اكتشاف الإنترنت واستخدام جوجل، وقد اختار نائبة حصلت على جواز سفرها فقط في العام الماضي وتعتقد أنها أقدر على فهم روسيا لأن آلاسكا أقرب إلى سيبيريا من ألباما! والحقيقة أني لو كنت في مكان أوباما لخاطبت ماكين على النحو التالي: "عزيزي السيناتور ماكين، إن العالم الذي تدعي فهمه هو عالم الأمس، والحال أن القرن الجديد الذي نعيشه يتطلب تفكيراً مختلفاً. كما أنه لا يمكن لرجل اعتبر الاقتصاد في وضع جيد أن يضمن الأمن للبلد". إن الخصوصية الأميركية عندما تغالي في تطرفها تتركنا دون حلفاء (العراق) ودون نفوذ (إيران)، ودون الحذر الواجب من المخاطرة (وول ستريت)، ليبقى الاستثناء الوحيد كما عبر عنه أوباما السنة الماضية هو ذلك "المعتمد على الدستور وعلى المبادئ والقيم والمثل التي نؤمن بها". --------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"