الاحتلال نعيم وجحيم المثقفين اليساريين العراقيين. لقد أطلقهم أحراراً في مرمى أكبر عملية قنص جسدية وروحية عرفها تاريخ الثقافة العالمية. حياتك أو تحقيق أقصى أحلامك في الحياة. هذا هو الرهان، والمراهنون كثيرون، فَمَنْ كالمثقفين قدرة على الإقناع والاقتناع؟ تشهد على ذلك مأساة "كامل شياع"، مستشار "وزارة الثقافة" الذي اغتيل في بغداد. مثقف من طراز نادر في العراق شارك في التنديد باغتياله أشخاص على قطيعة تامة، كرئيس الجمهورية جلال الطالباني الذي اعتبر وفاته "فاجعة أليمة للثقافة العراقية"، والمؤرخة السياسية الدكتورة سعاد خيري التي اعتبرت اغتياله مؤشراً لقبول "الحزب الشيوعي" بالاتفاقية مع واشنطن، وأعلنت تركها للحزب. مسؤولون في الدولة حمّلوها مسؤولية الجريمة. جاء ذلك في بيان وقّعه مائتا مثقف، بينهم أعضاء برلمان، ووزراء في حكومات الاحتلال. واعتبر واضعو البيان الاغتيال "استهدافاً ليس للثقافة ولحرية التعبير فقط بل للدولة نفسها التي عمل فيها كامل منذ 2003". وذكروا أن الدولة التي مازالوا يناضلون "لكي تستعيد تعريفها بوصفها دولة قانون محتكرة للعنف الشرعي أمام تحد وجودي كبير، فإما أن تكون أو أن تترك البلاد لعصابات القتل". شيء جيد أن يشارك مسؤولون في الدولة غير المسؤولين في تحميلها المسؤولية. لكن هذا خطأ، والدعوة إلى ممارسة "العنف الشرعي" خطأ وجودي، إذا صحّ التعبير. فالمسؤولون يعرفون أفضل من غيرهم أن الدولة التي يجري الحديث عنها ناقصة السيادة ومثلومة الشرعية. والدعوة إلى "العنف الشرعي" تثير اتهامات ضدّ المثقفين اليساريين أسوأ من الاتهامات القديمة بضلوعهم في مذابح أعقبت ثورة تموز 1958. وهل هناك أسوأ من الدعوة إلى "العنف الشرعي" في ظروف نزاعات دموية أطلقها ويستثمرها الاحتلال الأجنبي الذي لا ذكر له في البيان؟ لو كنا في "الكتاتيب" لعاقب "المُلاّ" هؤلاء المثقفين الذين يغفلون ذكر الاحتلال بأن يتهجوا كلمة "احتلال" ألف مرة: "ألف، حاء، تاء، لام ألف لام... والسلامْ"، لكننا في عالم مفتوح يضخ منذ أكثر من خمس سنوات آلاف التقارير والكتب والأفلام والمسرحيات والأعمال التشكيلية والموسيقية عن الاحتلال المجرم للعراق! وإذا كان "الإنكار السيكولوجي"، حسب علم النفس، "عملية سيكولوجية يتم فيها إقصاء حقائق مؤلمة عن الوعي الذاتي"، فإن "الإنكار الثقافي" للاحتلال يقصي حقائق مؤلمة عن الوعي الجماعي لشغيلة الوعي، حسب التعريف اليساري المعروف. ولو لم يكن رهان المثقفين اليساريين على الانفتاح والشفافية، لقلنا إنهم يتبعون النصيحة السومرية "لا تخبر أحداً بما يؤذيك"، أو يلتزمون بمبدأ "التقية" الذي يجيز إخفاء المعتقد الحقيقي للشخص. ونسأل: هل جلبت مهادنة الاحتلال الأمن لبلد تحيطه "فوالق زلزالية جيوبوليتيكية" تمتد بين أكبر الكتل البشرية في العالم؟ لقد فقد المثقفون اليساريون الوعي بهذه الواقعة "الجيوبوليتيكية" التي جعلت بلاد ما بين النهرين، بلاد ما بين الأمم والأقوام والأعراق، وأفلتوا راية الأمل في تأسيس عقل وطني متفتح يحول مصيبة "الفوالق الزلزالية" إلى فرصة. هذه الراية رفعها التيار اليساري الوطني في ذروة ازدهاره في أعوام الخمسينيات، حين كان "الحزب الشيوعي" يحشد مليون شخص في تظاهرات جماهيرية تهتف بشعاراته. وانتهى الشيوعيون إلى أن يصبحوا في التسعينيات "حزباً في الشتات يتحالف مع أشتات من الأحزاب". ذكر ذلك زكي خيري، أحد مؤسسي "الحزب الشيوعي". وتحطّم قلب زكي خيري، وهو يشهد انضمام حزبه إلى "المؤتمر الوطني" الذي شكله أحمد جلبي ولعب دور المظلة السياسية لغزو العراق. وتساءل في مقالة بعثها من منفاه في السويد: "كيف يدخل حزب شيوعي في تنظيم صنعته وتموّله الولايات المتحدة، ويقوده رأسمالي من عائلة كومبرادورية وإقطاعية؟"، وأوجز مأساة حزبه الذي ضحى بالجانب الديمقراطي من أجل الجانب الوطني في تحالفاته مع الأنظمة التي قامت بعد ثورة تموز 1958، وضحى في التسعينيات بالاثنين معاً وفي آن واحد. وبثّ زكي حزنه في رسالة قبل وفاته عام 1995 إلى الكاتب اليساري هادي العلوي: "لا تندهش يا صديقي إذا ما سمعت بعضاً من زملائنا يعيد النظر في ماهية الوطن. نَعَمْ، الوطنية قديمة قِدم المجتمع البشري وهي أقدم من أي مدرسة أو كتاب... لقد تلقيناها من حليب أمهاتنا". وقد شهد التاريخ في بلدان عدة كيف يستنفر تخلي المثقفين عن وظيفتهم العضوية القوى الغريزية للبقاء والحفاظ على الذات، والتي تطلق حركات عنيفة، قومية ودينية. هذا هو الذي يحدث في العراق وسوف يستمر للأسف فترة طويلة قادمة. تقدم شهادة مؤثرة على ذلك كتابات كامل شياع الذي عاد بعد غربة ربع قرن ليجد أن "العراق فتح ذهني وقلبي لسطوة الحاجة الآسرة القاسية على ناسه. وهو، كما يبدو لي الآن، حالة مثالية لفهم ما يجري في العالم بأسره. فلأنه بلغ القاع، صار يتيح، بشكل أفضل، رؤية منابع الحروب والهمجية والمصالح الأنانية، الكذب والفساد والعنف والنسيان المتعمد للحقيقة أو السهو عنها". واعترف كامل، من موقعه كمستشار في "وزارة الثقافة" بما يخفيه المثقفون المتعاونون مع الاحتلال: "كل خبر يأتيني عن بؤس هذا العالم وتعاسته يحيلني إلى "مستعمرة" سوء اسمها العراق... هي درجة الصفر التي لا موقع لها على خرائط المكان أو مقاييس التجربة، لكنها تتيح، في الوقت نفسه، فهم أوجه الزيف في عمارة زمننا الماضي في مسارات مجهولة". لماذا لم يستمع إلى نصيحة مثقفين معروفين بأن يغادر العراق؟ "فما الذي يفعله مثقف متعدد المواهب في هذا الركن الغبي الذي استولت عليه المحاصصات الغبية وبات دكاناً للمتحاصصين وتجار الدجاج والسجاد والأسلحة"؟.. طرح السؤال الناقد والروائي سهيل سامي نادر، في رثاء يندب وضع مثقفي الداخل: "من نخاطب بأخذ حق هذا الدم المهدور؟ إلى من نلجأ؟ المثقفون بلا ميليشيات، ولا إخوان في الشرطة، ولا أحباب في الحكومة، ولا أصدقاء في جيش الاحتلال... ولا أقرباء في الغرب، ولا خلان في الشرق. اللعنة"! وتصور عمق اللعنة مقالة لكامل شياع تقارن بين العدوان الإسرائيلي على بيروت والاحتلال الأميركي للعراق: "إسرائيل والولايات المتحدة في الحقيقة شريكتان في تطبيع مسار تاريخنا (الأعوج)... في بغداد، فتحت القنابل الذكية مغارات علي بابا، وأوقدت ليل المدينة بأنوار العصر الأميركي الجديد. المارينز يدهمونك في الشوارع، والحواجز الإسمنتية والأسلاك الشائكة قطّعت أوصال عاصمة الرشيد. أما المروحيات المغيرة فتمزّق هدوء المساءات... وتنطلق الحمامات مذعورة من بين أغصان أشجار البرتقال. هل لنا أن نبتهج بخرابنا القبيح؟". "بعد هذه المعرفة، ما الغفران؟". يسأل الشاعر الإنجليزي تي أس إيليوت، وكأنه يخاطب المثقف اليساري العراقي: "فَكِّرْ الآن. للتاريخ معابر ماكرة عدة، وممرات محتالة. وقضايا تخدع بطموحاتها المهموسة. تقودنا بالتفاهات. فَكِّرْ الآن. إنها تعطينا عندما يكون انتباهنا ملتاثاً. وتعطينا ما تعطينا حيرة مهدئة. لن نتوقف عن الاستكشاف. ونهاية الاستكشاف كله ستكون الوصول إلى حيث بدأنا. لنعرف المكان لأول مرة".