يعلمنا رمضان أن نصوم عن جملة من السلبيات. وفي مجال السياسة ربما كانت أهم الرذائل هي غطرسة القوة وخداع النفس. وفيما يبدو فقد لا نتمكن أبداً من الصوم أو الإقلاع التام عن الرذائل إلا إذا حلت محلها الفضائل المقابلة. وفي مجال السياسة تعد العقلانية والوضوح ضرورات أساسية للفوز في المعارك الكبيرة دون التخلي عن المبادئ العظيمة. غطرسة القوة هو ما بدأت حركة "حماس" تصاب به مبكراً نسبياً بالمقارنة بالحركات المشابهة. ولم تبدأ غطرسة القوة في الأيام أو الشهور الأخيرة. بل إن الانقلاب العسكري الذي قامت به حماس في غزة صيف العام الماضي كان تعبيراً عن هذا المرض. ولهذا المصطلح مستويان من الإيحاءات والإحالات. فهو يشير إلى الشعور بإمكانية التغلب على أية مقاومة ومن ثم تجاهل أو جهل حدود القوة. كما يشير أيضاً إلى خطأ الحسابات الناجم عن الشعور بالقوة في المدى المباشر دون فهمها واستيعاب متطلباتها وخاصة على المدى الطويل. وربما يكون الخطأ الأكبر الذي وقعت فيه "حماس" هو تصورها إمكانية بناء سلطة إسلامية ثورية في غزة وحدها أو حتى في فلسطين كلها في ظروف حصار دولي وعربي مفروض على كل الشعب وكل الأرض الفلسطينية. والأهم أن مفهومها للتجربة الإسلامية ينتمي في جانب كبير منه للقرون الوسطى ولا يكاد يلامس الإنجازات العصرية في مجال بناء سلطة الشعب أو الديمقراطية والحكم الدستوري. ورغم بساطة بل وبؤس تجربة "حماس" في الحكم فهي لم تراجعها وصولاً إلى تجربة أكثر إلهاماً للشعب الفلسطيني. وسارت الحسابات الخاطئة في العلاقة مع "فتح" وبقية أطراف المجتمع السياسي الفلسطيني كل هذا الطريق ولمدة عام بدون مراجعة جذرية. فبعد أن تبين أن التمرد على سلطة منظمة التحرير لن يمتد إلى الضفة، كان من الضروري لـ"حماس" أن تراجع حساباتها ولم تفعل بسبب غطرسة القوة. بل وتعاظمت غطرسة القوة في مواجهة أطراف المجتمع السياسي والمدني في غزة عبر سلسلة من العمليات القمعية التي استهدفت احتكار السياسة والسلطة كلية في القطاع. وبذلك خسرت "حماس" تعاطف أو حياد الكتلة الثالثة في السياسة الفلسطينية. ومع مرور الوقت بدأت "حماس" تفقد الحماس الشعبي أيضاً. ويظهر غرور القوة بنفس الطريقة التي كانت أصابت الساسة العرب تقليدياً عندما يصرح زعماء "حماس" أنه صار لديهم "جيش حقيقي وكبير" في غزة وأنهم يضطرون لتأجيل تجنيد عدد كبير من المتطوعين... إلخ. وببساطة لم تفهم "حماس" أن القوة علاقة وليست جيوشاً ورؤية وليست مواد وسياسة وليست وقائع تفرض على الأرض. ولم تدرك "حماس" حتى الآن ما يعرفه الجميع دون أن يتحدث إليها فيه أحد صراحة، وهو أنها في منتهي الضعف وأن المجتمع الفلسطيني كله يعاني من خوار وهشاشة بالغين بعد أكثر من ست سنوات من الانتفاضة والمواجهة مع عدو أكبر كثيراً، دون تحقيق إنجاز يذكر بل ودون تعاطف عالمي أو عربي كبير. خداع النفس يظهر في خطاب مستفيض وكامل لكنه لا يعرض للشمس كثيراً. وترتبت على هذا المرض سلسلة من القرارات البعيدة عن الواقعية، آخرها محاولة كسر الحصار عن غزة عن طريق مراكب بسيطة تحمل نشطاء دوليين متعاطفين مع الحقوق السياسية للشعب الفلسطيني أو مع محنته الطويلة. وبعد نجاح الاختراق الأول للحصار من البحر تخطط "حماس" لاختراق آخر بمركبين صغيرين أضافيين. ولا شك أن لهذه العملية عائدا إعلاميا معينا. إذ يفضح جريمة الحصار والعقاب الجماعي لشعب غزة أمام قطاع واسع من الرأي العام العالمي. لكن لا مجال إطلاقاً لأن تحقق هذه العملية هدف كسر الحصار. وعلى العكس تماماً لو أن المجتمع المدني العالمي قرر فعلاً النضال من أجل كسر الحصار لكان قد قام بإدارة سلسلة من المظاهرات الكبيرة نسبياً في عواصم أوروبا وأميركا، وهي وسيلة كفاحية أجدى كثيراً من الاختراق من البحر بمركب أو عدة مراكب. وتشير هذه المقارنة إلى أن القضية الفلسطينية ككل صارت محاصرة وسط المجتمع المدني العالمي جزئياً بسبب تكتيكات "حماس". وكان جميع الخبراء العرب المهمين قد نصحوا "حماس" مبكراً بالتوقف عن العمليات الاستشهادية. ولو فعلت في الوقت المناسب: أي قبل بناء الجدار لكان الشعب الفلسطيني قد حصل على عائد معين للانتفاضة. ولم تتوقف "حماس" لأنها لم تكن تهتم كثيراً ولا قليلاً بالمجتمع المدني العالمي الذي تستعين به اليوم، فخسرت العائد السياسي وخسرت أيضاً المجتمع المدني العالمي بل وبددت بالفعل التعاطف الشعبي مع القضية الفلسطينية في المستوى الدولي. وحسناً فعلت "حماس" بأن بدأت الاهتمام بالمجتمع المدني العالمي، والذي تحمل مسؤولية محاولة قطع الطريق على احتلال العراق عبر سلسلة من المظاهرات في العالم كله. وكونه خسر رهانه يعني أنه لم يكتسب بعد القوة الفورية اللازمة للتغلب على قرارات استراتيجية ذات أولوية على جدول أعمال الإمبريالية العالمية. وهذا هو نفسه توصيف الحصار المفروض على غزة. وهذا هو الواقع الذي يجب على "حماس" أن تتعامل معه بأسلوب جديد وخلاق. فلن يكون كسر الحصار ممكناً في الأمد المنظور إلا إذا وقع تعديل جوهري في المواقف السياسية لـ"حماس". وتمثل عملية المراكب التي تخترق الحصار مجرد بداية متأخرة جداً لاعتراف "حماس" بأهمية الرأي العام والمجتمع المدني في المعركة الطويلة حول الحقوق الفلسطينية. لكن إن تعاملنا مع القضية بأكبر قدر ممكن من الوضوح والواقعية فستمر سنوات طويلة قبل أن نستعيد التأييد الكبير للقضية الفلسطينية في الأوساط الشعبية والرسمية والذي خسرناه بسبب العمليات الاستشهادية أولاً ثم بسبب الانقسامات والصراعات الفلسطينية ثانياً فضلاً بالطبع عن سوء سمعة النظم العربية في العالم كله. ولن يصبر المجتمع الفلسطيني في غزة لهذه المدة الطويلة. وقد يبدأ في التصدع بسرعة في لحظة ما مستقبلاً. وعلى "حماس" أن تفهم هذا القانون الاجتماعي التاريخي حتى تحسن التصرف. يقول هذا القانون إنه ذا عجز مجتمع صغير عن موازنة وردع قوة أكبر منه بكثير تفرض عليه حالة حصار كاملة، فالنتيجة الحتمية هي أن يبدأ هذا المجتمع في التصدع جزئياً عن طريق ممارسة العنف ضد نفسه وجزئياً عن طريق التسرب للخارج، وربما عن طريق نوع أو آخر من الانتحار الجماعي في الحالات المتطرفة. لكن القضية أوسع وأهم من مجرد كسر الحصار، لأنه لابد من استعادة الأرض المحتلة في يونيو 1967. فبدون إحداث تغيير كبير في الثقافة والفكر السياسي لـ"حماس" يمكّنها من التعاطي مع النظام العالمي فتستمر في الواقع "الحكومة الفلسطينية المثالية" لإسرائيل. فكان من السهل للغاية أن تكسب إسرائيل القوى الكبرى بل وتحيد الرأي العام العالمي بمجرد الإشارة لمواقف "حماس" وخاصة رفضها للمفاوضات من أجل "السلام" انطلاقاً من رفضها الاعتراف بإسرائيل من حيث المبدأ. وجعل هذا الموقف من الممكن لإسرائيل أن تصور سياساتها الإجرامية كنوع من الدفاع المشروع عن النفس. ومن أغرب ما يمكن أن يقال في الدنيا واقله عقلانية أن تطلب "حماس" هدنة طويلة المدى دون اتفاق سلام. إذ يعني ذلك حرمان الفلسطينيين من أية آلية للضغط على إسرائيل وأنصارها للانسحاب من الأراضي المحتلة في يونيو 1967 دون مقابل، وذلك لمجرد الاحتفاظ في القلب بموقف مبدئي مضاد للاعتراف بإسرائيل من حيث المبدأ. فما قيمة المبدأ في هذه الحالة إن كانت كل الأرض المحتلة قد ضاعت على المدى الطويل وتكون قد ضاعت أيضاً فكرة انتظار أن يحدث شيء يغير معادلات القوة. وربما يكون رمضان مناسبة لتأملات عميقة ومراجعات أعمق للفكر والاستراتيجية، بالنسبة لـ"حماس" والفلسطينيين بشكل عام. والمشروع البديل يبدأ عندما تتبنى "حماس"، بالمشاركة مع بقية تيارات السياسة والثقافة في المجتمع الفلسطيني، تجربة تحرر ونهضة أصيلة وملهمة لجميع شعوب العالم المناضلة من أجل العدالة.