من حقنا أن نشعر بالصدمة؛ فمنظر الفلسطينيين الذين جردتهم إسرائيل من ملابسهم بعد أن هربوا إليها من جحيم الصراع بين "فتح" و"حماس" في غزة وطيرت وكالات الأنباء صورهم بشماتة منقطعة النظير ونشرته عشرات الصحف العربية والأجنبية يوم الاثنين الماضي... يثير الشفقة على النفس والاشمئزاز والشعور الهائل بالإهانة ويكاد يقترب بنا من اليأس. وبينما المشهد ذاته جديد، فهو مجرد لقطة من فيلم طويل لا ينتهي للمعاناة الفلسطينية بما في ذلك معاناة الفلسطينيين على أيدي بعضهم البعض. وربما نسينا المشهد المتكرر للصواريخ الطائرة في الأفق وفي جميع الاتجاهات داخل معسكرات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، قبل وبعد الغزو الإسرائيلي الإجرامي الذي انتهى بمجزرة صبرا وشاتيلا عام 1982. وكانت الحروب الأهلية الفلسطينية الصغيرة تنفجر كل بضعة أشهر وأحياناً كل بضعة أسابيع. ولم تكن تنحصر في صراعات دموية بين فصائل مستقلة. فالانشقاقات لم تتوقف أبداً داخل نفس الفصائل، وكانت الحروب بين أشقاء ورفاق الفصيل الواحد أشد وأعتى أحياناً مما دار أو يدور بين الفصائل المختلفة. وبالقطع كانت أشد وطأة مادياً وليس نفسياً فقط مقارنة بالصراعات العسكرية بين مجمل حركة التحرر الوطني الفلسطيني وإسرائيل. ورغم أن الحروب الأهلية الصغيرة والكبيرة لم ترتبط بصورة مباشرة بالصراع مع إسرائيل، فقد أضعفت الحركة الوطنية الفلسطينية. وبعد أن كان معيار الوطنية الحقة هو رفض اتفاقية "كامب ديفيد" التي وقّعها الرئيس المصري الراحل أنور السادات، فقد ساهمت سلسلة من الحروب الأهلية الصغيرة بين الفلسطينيين في "تعريب"، بل و"فلسطنة" هذه الاتفاقية، أي أنها كرست أيديولوجيا التسوية التفاوضية برعاية أميركية خاصة. بل ساهمت أيضاً في نمو مناخ نفسي داخل الضفة والقطاع يسلم بحتمية التسوية السياسية مع إسرائيل ولو كانت ظالمة، وهو ما أفضى الى اتفاق "أوسلو" وحضّر الساحة الفلسطينية لفرز عميق وصدْع شديد، ولانطلاق قوة "حماس" السياسية والعسكرية في مواجهة "فتح". وكثيراً ما كانت تلك الحروب الأهلية تذهب بنا لليأس الكامل، خاصة أننا درجنا على تبكيت الذات أو جلدها. ساهم في ذلك انتشار عقيدة تنسب هذه الصراعات العقيمة والمرعبة لخصوصيتنا الثقافية أو النفسية. وبدا كأن العرب حالة استثنائية لبقية خلق الله من حيث ميلهم للشجار الدائم دونما سبب وجيه أحياناً ودونما نتيجة في معظم الأحيان، حتى ولو كانت إكراهات الطبيعة والاستراتيجية تقتضي منهم التركيز على الهدف الوطني. وبالفعل فإن نحو عامين ونصف من الصراع السياسي العسكري بين "فتح" و"حماس" لم يفض سوى لمزيد من تعميق الأزمة الشاملة التي تواجه المجتمع والحركة الوطنية في فلسطين. وتتسع موجات الشعور بالألم والحيرة والتشتت والاغتراب والإحباط على المستويين الوطني الفلسطيني والقومي العربي مع كل انفجار وبالذات بعد استيلاء "حماس" عسكرياً على غزة صيف العام الماضي. ولا يمكن بالطبع أن نستبعد شيئاً من الخصوصية الثقافية العربية التي تقود لدفع الأمور إلى منتهاها ومن ثم لصراعات أهلية مدوية. ومع ذلك فاعتقادي الشخصي هو أن ما يحدث بين "فتح" و"حماس" هو في حقيقته تعبير عن قانون كوني أكثر منه انعكاساً لخصوصية ثقافية أو سياسية. فقد تفتح على النضال ضد الاستعمار الغربي الحديث تشكيلان مختلفان: الأول واحدي والثاني ثنائي. فيتنام هي النموذج الكلاسيكي للنضال الوطني المتحد أو المنصهر في كيان سياسي وعسكري واحد. هذا الكيان كان عابراً ليس للانقسامات الأيديولوجية والثقافية وحدها بل وللانقسام الجغرافي بين شمال وجنوب أيضاً. لنتذكر أن هذا النموذج لم يكن هو الوحيد في آسيا حيث فشل في تحقيقه حزب العمال الكوري الحاكم في كوريا الشمالية مثلاً, وانقسمت كوريا ذاتها إلى دولتين ذات أيديولوجيتين ونمطين اقتصاديين-اجتماعيين. ووقع ما هو أقسى من ذلك في كمبوديا حيث قامت حركة "الخمير الحمر" بإبادة نحو ثلث الشعب الكمبودي نفسه. وفي أفريقيا ساد نموذج الحركة الوطنية الواحدة أحياناً، ويكاد يكون حزب "المؤتمر الوطني" بزعامة مانديللا هو النموذج الأكثر تعبيراً بما لا يقاس. وبالمقابل فقد وقعت انشقاقات عميقة داخل الحركات الوطنية، أدت أحياناً الى حروب أهلية ممتدة ومرعبة بكل المقاييس. وطالما أن زيمبابوي لا زالت خبراً أو موضوعاً بارزاً في الإعلام فلعل جيلنا الكهل يتذكر الصراعات والحروب المدوية بين حزبي "زانو" و"زابو". ولم ينته هذا الصراع إلا بعد أن عين الرئيس الحالي منافسه "جوشوانكوما" زعيم "زابو"، والذي كان له فضل الريادة في الثورة من أجل الاستقلال، كنائب له لكن بعد نزع مخالبه تماماً. كذلك نتذكر الصراع الدامي بين فصيلين في موزمبيق وبين أربعة فصائل للحركة الوطنية في أنجولا بعد الاستقلال. ورغم بعد المسافة الزمنية، فلا تزال ثورة 1919 نموذجاً للتشكيلة الثنائية للحركة الوطنية الاستقلالية، رغم أنها كانت سياسية أكثر منها عسكرية. واستمرت هذه التشكيلة حتى ورث الضباط الأحرار الأرض ومن عليها! وحيثما انشق المجتمع المستعمر أو المناضل من أجل الاستقلال إلى تشكيلين سياسيين أو عسكريين، فالصراع يبدو منطقياً وكثيراً ما يتدهور إلى حروب أهلية. هذه الحروب هي أولاً تعبير عن عمق الصراع الاجتماعي الذي يستيقظ في سياق الصراع الوطني. وهي ثانياً تعبير "طبيعي" عن اختلاف الرأي والمنهج بين نظريتين في الوطنية. الأولى تقاتل الاستعمار لكنها تحاول استيعاب أسباب قوته. والثانية تقاتل الاستعمار بتغليظ الحدود الثقافية والسياسية والأيديولوجية وأحياناً الدينية معه وتجذير الهوية الوطنية في أغوار عميقة تجعل التسويات غير ممكنة والتناحر شاملاً والثورة الوطنية أو النضالية أبدية أو على الأقل مستمرة. وهى من ناحية أخرى محاولة لتجديد طاقة الثورة الوطنية بعد أن تصيبها عوامل الترهل والضعف ويشوهها الفساد والاستبداد. وما يبدو طبيعياً، أي التعدد -ولو في تشكيل ثنائي- يتم في ظروف غير طبيعية؛ أي استمرار القهر الاستعماري. ولذلك يكتسب الصراع سخونة خاصة. لكن حتى في غياب القهر الاستعماري وفي الظروف العادية تميل المجتمعات المعقدة لحصر الصراع السياسي في حزبين أو حركتين كبيرتين. وهذا هو ما يحدث في أميركا الشمالية وأكثرية الدول الأوروبية منذ قرون. في بداية هذا التشكل الثنائي قد تنفجر صراعات مدوية حتى يتعلم السياسيون ويستوعبون ويحترمون فكرة الحل الديمقراطي للصراع من خلال صناديق الاقتراع. وفي رأي عدد متزايد من المؤرخين البريطانيين والأوروبيين، فإن الديموقراطية إنما برزت باعتبارها آلية للحل السلمي للصراع بين حركتين أو طبقتين أو حزبين متناحرين. ويعني ذلك أنها نتجت عن حل عملي لإشكالية الصراع العسكري الممتد، وليس بوصفها تجسيداً لقناعة السياسيين والمجتمع بالمبادئ المجردة للحركة الدستورية. وهذا هو الحل المقترح والممكن للصراع في فلسطين المحتلة. الحل المؤقت والدائم هو الذهاب إلى صناديق الاقتراع وعقد انتخابات جديدة. لكن حتى إن تحقق ذلك فقد لا يحترم طرف، أو جميع الأطراف معاً، نتيجة الانتخابات النزيهة، بل قد يمنعونها من أن تكون نزيهة في الأصل. لذلك فإن هذا الحل يثير مشكلة خاصة جداً بالحالة الفلسطينية، وهى كيفية قيام العرب بدور خلاق، سواء في تنظيم ومراقبة الانتخابات العامة أو فرض احترام نتائجها. أشعر بالغضب لأنني مضطر الى لتراجع عن هذا الاستنتاج. فمن يجب أن يراقب الانتخابات العامة في الأرض المحتلة ويفرض احترام نتائجها، هم الأوربيون.... لا العرب.