أربعة وأربعون رئيساً ورئيس وزراء اجتمعوا في قمة "الاتحاد من أجل المتوسط" يومي 13 و14 من يوليو الحالي. وأثبتت فرنسا ما تريد إثباته في عيدها الوطني وهو أنها كقوة آفلة تستطيع القيام بما قامت به قوة صاعدة هي الصين عندما جمعت نحو خمسين رئيس دولة أفريقية في "قاعة الشعب" للحديث عن التعاون. هذه المرة تم الحديث عن "الاتحاد من أجل المتوسط"، وهو أمر مدهش. فهؤلاء هم أنفسهم الذين لم يترددوا قط في انتهاك بكارة البحر العريق وتلويثه بكل الطرق الممكنة. فكيف تتهم فكرة الحماس المفاجئ للاتحاد من أجل هذا المتوسط نفسه؟ لا أحد يصدق أن البحر يثير حماسة أي من هؤلاء الذين يريدون تحويله إلى مشروع رأسمالي كبير فحسب؛ فقد كانت هذه هي الفكرة نفسها التي تحدث عنها الأوروبيون في صيغة برشلونة منذ عام 1995. ويعلم الجميع أنه في غضون عشرة أعوام لم تثمر هذه الصيغة شيئاً جديداً وملهماً أكثر مما كان لدينا في السياسة المتوسطية القديمة والتي نشأت مع مولد الجماعة الأوروبية. والطريف أن جنوب البحر كان أقل حماسة من شماله، حتى أن قليلين جداً من قادة الدول العربية حضروا "قمة" برشلونة عام 2005 والتي أطلقت وعوداً ببرنامج عمل كبير نسبياً حتى مقارنة بصيغة "الاتحاد من أجل المتوسط". فلماذا إذن هذه الحماسة المفاجئة؟ لدينا أربعة تفسيرات متقاطعة وإن كانت مختلفة. الأمل في التطبيع المجاني: نعلم أن فرنسا حاولت مراراً أن ترث النفوذ الأميركي في المنطقة عبر تنفيذ ما يقوم به الأميركيون لكن بيد ناعمة. فقد ثبت أن المطرقة الأميركية لا تنفع، وأنها تنتج رد فعل مضادا. لكن ماذا تستطيع فرنسا فعله بالضبط؟ أهم ما تحاوله فرنسا، وفشلت فيه أميركا من قبل، هو إدماج إسرائيل في المنطقة، وقبل التوصل لسلام عادل ودائم وشامل؛ أي أن يتحقق لإسرائيل تطبيع مجاني ودون أي مقابل. ويبدو أن الرئيس مبارك قبل بهذه الصيغة لأنها تتسق مع السياسات المصرية منذ عام 2004، بما في ذلك اتفاقية "الكويز" وبيع الغاز وحصار غزة. وحقق الفرنسيون هذه الرغبة الدفينة في أن يقوموا بدور رئيسي في إقناع العرب بقبول إسرائيل بمقابلٍ أو بدون مقابل. فالحضور الإسرائيلي وسط القادة العرب وغير العرب كان ملموساً للغاية في قمة المتوسط. لكن المشكلة مع هذا التفسير هي أن التطبيع المجاني مع إسرائيل نوع من العار الذي لا يريد سوى قليلين استعراضه على الملأ. لذلك فقد ترك الفرنسيون هذا الجزء من البيان الختامي حتى اللحظة الأخيرة ولم يتمكنوا سوى من تقديم صياغة عامة وغامضة لما يسمى سلام الشرق الأوسط. الجائزة السورية: وقد يكون الغرض من "الاتحاد" ليس المتوسط وليس الهدف الغربي الطموح بفرض تطبيع عربي مع إسرائيل، وإنما تقديم غطاء مناسب لاستقطاب سوريا وحدها. ولهذا كان اهتمام الإعلام الدولي بحضور الرئيس بشار الأسد قمة الاتحاد أكبر من أي زعيم عربي آخر بل وأكبر من أية قضية أخرى. ومن العجيب أن تتجاهل وكالات الأنباء الأميركية والبريطانية القمة وبيانها إلى حد كبير ولا يثير اهتمامها سوى حضور الرئيس السوري. ساهم في هذا الاهتمام بالرئيس الأسد أن الأوروبيين عموماً يهفون بشدة لجر سوريا بعيداً عن إيران وشدها للتعاون فيما يتعلق بالمسألة اللبنانية وتحديداً "تنعيم" مواقف "حزب الله". لذلك قدمت فرنسا عربوناً كريماً للرئيس الأسد بزيارة ساركوزي لدمشق وبالحفاوة البالغة التي استقبلته بها قبل المؤتمر. وربما تكون قد أشعرته أن فرنسا وأوروبا عموماً هي البوابة الذهبية لاقتحام السياسة الدولية من جديد أو بالأحرى كمقدمة لحل الأزمة السورية الأميركية. لكن هناك مشكلات معينة مع هذا التفسير. ففرنسا لم تكن بحاجة لدعوة 44 قائداً أوروبياً وعربياً من أجل تقديم تغطية ملائمة لموقف جديد نحو سوريا. وأوروبا كلها تعلم أن الأولوية الكاسحة لسوريا هي مصالحها الاستراتيجية وأن هذه المصالح بيد الأميركيين أكثر مما هي بيد الأوروبيين أو الفرنسيين. ومع كل الاهتمام بالتاريخ الطويل للعلاقات الفرنسية الإسرائيلية فالأميركيون وحدهم هم من يستطيعوا "إصدار أوامر" لإسرائيل. شرق بدون ديمقراطية: نعود إلى الأهداف الفرنسية الطموحة من "الاتحاد"، وفي القلب منها تشكيل منطقة واسعة للنفوذ فضّل الأميركيون تسميتها "الشرق الأوسط الكبير". ونظر كثيرون للاتحاد من أجل المتوسط كصيغة مختلفة لتحقيق الشرق الأوسط الكبير الذي فشل في تحقيقه بوش الابن. وربما يستطيع الأوروبيون استقطاب القادة العرب، لأنهم لا يهتمون بشعارات الديمقراطية ولا يثقون بقدرة البلاد العربية ولا الحضارة الشرقية عموماً على إنجاز الديمقراطية، ولا حتى شكلياً كما أرادها بوش. لكن يصعب القبول بهذه النظرية لأن المشروع الفرنسي مختلف تماماً في نطاقه الجغرافي عن المشروع الأميركي. فبينما كان الأميركيون أكثر اهتماماً بالخليج وإيران تحديداً حصر الفرنسيون اهتمامهم فعلاً في البلاد المتوسطية وبتركيا على الأخص. فمن ناحية هم يريدون إطاراً لإدماج تركيا له صلة بالاتحاد الأوروبي لكنه يعفيهم من منح أنقرة صفة العضو الأوروبي. ومن ناحية أخرى فقد ثبت أن تركيا أكثر فعّالية فيما يتصل بالعلاقات مع إسرائيل من أوروبا كلها. فهي الدولة التي تتوسط بين سوريا وإسرائيل، أي في علاقة هي الأكثر سخونة وأهمية في الأجندة الاستراتيجية للشرق الأوسط كله. النفوذ والنقود: إن تركنا التفسيرات الطموحة، نعود إلى التفسير التقليدي وهو أن فرنسا تريد "إحياء المشروع المتوسطي" بعد أن كاد يخر صريعاً، كما شهدنا في فشل قمة برشلونة عام 2005. ويؤيد هذا المعنى أن الرئيس الفرنسي أكد مراراً وتكراراً أن البحر المتوسط هو بوابة فرنسا للنفوذ في العالم. ويبدو أن الجزء الوحيد المقنع في كل هذا الاهتمام بالمتوسط هو النفوذ والنقود: أي السياسة والتجارة. غير أن الأمر المحير هو أن الرئيس الفرنسي فشل في إقناع العالم بأن لديه في هذا المضمار شيئاً جديداً. فلا يبدو أن ثمة اختلافا حقيقيا بين مشروع ساركوزي ومشروع شيراك أو بين الاتحاد من أجل المتوسط والشراكة المتوسطية الجديدة. فهناك نفس الحديث عن مشروعات للبيئة والطاقة والأمن ومكافحة الهجرة غير الشرعية وغيرها من الاهتمامات المتوسطية التقليدية أو بالأحرى الاهتمامات الأوروبية بالبحر المتوسط وجنوبه على وجه التحديد. بل العكس تماماً هو ما يبدو متسقاً مع "خطاب الاتحاد". فمشروع ساركوزي يختلف عن مشروع شيراك أو "عملية برشلونة" في أن الأخيرة كانت أوسع وأكثر إحاطة بجميع الاهتمامات المشتركة وأنها وظفت لغة وردية. أما المشروع الذي أطلقه ساركوزي فقد برره فقط بأنه يتحدث عن "مشروعات عملية"، وهي لغة تروق لقادة "عمليين" مثل الرئيس مبارك. وفي أحسن الأحوال فمشروع "الاتحاد من أجل المتوسط" هو كما يقول الفرنسيون نبيذ قديم في قنان جديدة. ولكن حتى هذا التفسير لا يبدو مقنعا تماماً إذ يفشل في الإجابة على السؤال: لماذا يحضر 44 زعيماً اجتماع قمة لا يقدم جديداً؟ الإجابة هي أن القمة نفسها كانت مطلوبة في هذا التوقيت تحديداً، فالمؤتمر يمنح القادة العرب فرصة لتجديد مشروعيتهم الدولية في سياق عام من الفشل الداخلي، ويمنح فرنسا ما تحتاجه أكثر من أي وقت مضى، أي أضواءً جديدة مبهرة على مجدٍ إمبراطوريٍ غابر.