في مقال سابق تحدث "عمانوئيل فالد" عن تخثر المادة القتالية الإسرائيلية، فأشار إلى تخثر طبقة الضباط، إذ يشير إلى أنه "ظهرت بين الضباط ظاهرة الرأس الصغيرة (الروش قطان، صاحب الرأس الصغيرة والمعدة الكبيرة)، فالضباط، الذين يعتبرون أصحاء أصلاً، يصبحون في الجيش الإسرائيلي، على حد قوله، مرضى. وتنتشر في الجيش الإسرائيلي الظاهرة المعروفة في جيش أميركا الجنوبية، حيث يوجد المزيد والمزيد من الضباط على العدد نفسه من الجنود. ويشغل بعض الجنرالات، حالياً، مناصب كان يشغلها، منذ سنوات قليلة، ضباط برتبة مقدم. وزاد بين الضباط عدد الفنيين على حساب الضباط المقاتلين". وقد ترجم هذا نفسه إلى تآكل في مستوى القتال خاصة أن القوات المسلحة تختصر من التدريب في الجيش وتجند الفئات الدنيا من السكان (أي الشرقيين). وهذه سمة أخرى في القوات المسلحة الغربية إذ نجد تزايد عدد السود في القوات المسلحة الأميركية وعدد المسلمين في القوات المسلحة السوفييتية. وقد وصف "فالد" الجيش بأنه في وضع عسكري مترهل، وأنه جسد منتفخ منحل، وليس فيه عضلات، وأن القدرة على تحقيق النصر بدأت تقل، وأن الجيش الإسرائيلي يفتقر إلى القدرة على التغلب على مقاومة قوات معادية صغيرة. فقوات الجيش الإسرائيلي البرية لم تكن ترغب في الهجوم في حرب لبنان، وحتى لو أرادت ذلك، فإنها لا تعرف كيف تفعل ذلك. وقد وصف "زئيف شيف" آراء "فالد" بأنها متناقضة أحياناً، مبالغ فيها أحياناً أخرى، وأنها على مستوى من المستويات تصفية لحسابات شخصية. ولكن مع هذا هناك قدر كبير من الصدق فيما يقول، ولعل أكبر دليل على ذلك أن آراءه ساهمت في الجدل العام بشأن الجيش. (زئيف شيف: "اتهامات عمانوئيل فالد" هآرتس 14 ديسمبر1987 الملف 45). ولكن هناك من القرائن الأخرى ما يدل على مدى صدق آراء "فالد"، فضعف مستوى أداء القوات المسلحة الإسرائيلية في لبنان، أمر أشار إليه أحد تقارير البنتاجون (التي نجحت المؤسسة العسكرية الصهيونية في إخفائها لمدة عامين) والذي ورد فيه أن 10% من كل الخسائر أثناء حرب لبنان الأولى كان مصدرها الإسرائيليين أنفسهم، وهذه تعد نسبة عالية للغاية. ومع هذا نشرت "الجيروزاليم بوست" (29 يناير 1988) في صفحتها الأولى خبراً مقتضباً للغاية عن الانتقاد الذي وجّهه "جيمس ويب"، وزير البحرية الأميركية للقوات الإسرائيلية (وذلك في مقال نشرته مجلة الأميركان بوليتيكس) وصفها فيه بأنها لا تشكل نداً لأية وحدة عسكرية أميركية. وقد أشار إلى ارتفاع نسبة عدد القتلى الإسرائيليين الذين قتلوا خطأ برصاص قواتهم أثناء غزو لبنان، ولكنه لم يذكر النسبة. ولعل هذه الإشارات المقتضبة، هي مجرد تلميحات عن الأوضاع المتردية التي أشار إليها "عمانوئيل فالد" في تقريره. ويظهر تدهور القوات المسلحة الإسرائيلية في انخفاض الروح المعنوية والإحساس العميق بالخوف واليأس. ففي مقال لـ"جدعون ألون" (هآرتس 18 ديسمبر 1987) بعنوان "جندي احتياط عائد من الخدمة في قطاع غزة: كان ذلك كابوساً حقيقياً"، قال أحد جنود الاحتياط: إن قطاع غزة أصبح "عشاً من الدبابير"، ولذا فهو يفضل خدمة شهرين داخل القطاع الأمني في لبنان على أن يخدم أسبوعين في قطاع غزة، وأضاف: "كلما تذكرت أنني سأضطر للعودة إلى هذه الأماكن المقيتة اعترتني قشعريرة وتصبب العرق من جبيني". ويبدو أن وصف قرية عربية بأنها وكر للدبابير استعارة شاسعة بين الجنود الإسرائيليين، فقد استخدمها قائد القوة العسكرية الإسرائيلية التي هاجمت قرية برقة ليصف هذه القرية. (معاريف 25 فبراير 1988). وإذا كان هذا هو إدراك الجنود للقرى العربية، فإن القيادات العسكرية بدأ ينتابها القلق بسبب ظهور علامات التوتر والإحباط على المقاتلين الإسرائيليين، وقد لاحظ بعض الأطباء الأميركيين ظهور "أعراض فيتنام المرضية" (جيروزاليم بوست 8 يونيو 1988)، ويبدو أن هذه الأعراض تظهر عادة حينما يتحول جيش نضالي دُرّب على القتال في أرض المعركة إلى قوة أمنية تقوم بمطاردة المدنيين وقتلهم. وتتعمق الأعراض حينما يختفي الإجماع القومي بخصوص مدى شرعية الحرب، فإنْ قام الجنود المقاتلون بالبطش بالمدنيين، هاجمهم المعتدلون والمنادون بالحلول السلمية، وإنْ تقاعسوا في أداء واجبهم القمعي هاجمهم المنادون بالحلول العسكرية العاجلة. ومما يزيد من حدة هذه الأعراض استمرار المقاومة المدنية حتى يترسخ لدى المقاتلين الإحساس بأن حل المشكلة لن يتم بالشكل العسكري. وكل هذه العناصر متوفرة في الموقف الحالي في فلسطين المحتلة، فالجنود الإسرائيليون يعرفون أن التحدي الذي يواجههم هو أساساً تحد سياسي "يتطلب حلاً سياسياً ولا يمكن لأي حلول عسكرية أن تأتي بالإجابة". (كريستيان ساينس مونيتور) جورج موفيت، "الانتفاضة الفلسطينية غيرت مفاهيم الإسرائيليين". ولذا فالقتال يبدو بالنسبة لهم سخيفاً. وقد تحدث "ماتي جولان" عن حالة الضياع التي يعاني منها الجنود بقوله: "إنهم يتجولون تائهين مذهولين، لا قتال في الليل ولا في النهار، ولا احتلال أهداف، ولا يوجد أمامهم جنود ولا حتى مخربون. العدو أطفال ونساء لا عسكريون بأيديهم بنادق ورشاشات، وإنما حجارة فقط" (في مقال سامي ذبيان "القلق على الوجود" نقلاً من مقال لمحمود سويد في الكرمل الشرق الأوسط 30 يونيو 1988). ونشرت الصحف الإسرائيلية على لسان إسحاق رابين وزير الدفاع الإسرائيلي قوله إن بعض الجنود والضباط الذين يخدمون في المناطق أبلغوه في أحاديث دارت معهم: أن النشاط الذي يمارسونه صعب عليهم جداً، وقد سئم الكثيرون مطاردة الأطفال رماة الحجارة. الجيش الإسرائيلي، صاحب العمليات الإجهاضية الشهيرة، التي طالما دوّخت الحكومات والنظم، تحول من الفعل إلى رد الفعل، ودخل محيط الإدراك العربي وبدأ يدرك الواقع من خلال مقولات أطفال الحجارة. وكما قالت مجلة حداشوت (9 فبراير 1988): "إن الفلسطينيين هم الذين يحددون قدر ومستوى التصعيد، وهذا هو الخطر الحقيقي الذي يواجه إسرائيل، لأنها لا تسيطر بصورة فعلية على قوانين اللعبة". وتظهر السيطرة العربية على الموقف في تدهور الجيش الإسرائيلي على مستوييْن أولهما هو "أدوات القتال". فقد جاء في القبس (عدد 3 مارس 1988) نقلاً عن "الهيرالد تريبيون": أن الجيش الإسرائيلي الذي يتميز بتكنولوجيته المتقدمة أعاد عقارب الساعة إلى الوراء، فبدلاً من التركيز على استخدام الأسلحة التي تعمل بالكمبيوتر يقوم الباحثون بصنع هراوات من "الفيبر غلاس" بدلاً من الهراوات الخشبية التي تنكسر بسرعة. كما ظهر مدفع يطلق الحجارة، وهناك (كذلك) الجرافة التي أصبحت رمزاً آخر يدل على عمل الجيش. ورصدت جريدة الوطن (24 أبريل 1988) في تقرير لها عن الاستيطان نفس الاتجاه، فأشارت إلى أن قوات الجيش الإسرائيلي تقوم "باستخدام أنواع متطورة من الأجهزة العسكرية الحديثة التي صنعت خصيصاً لمواجهة المظاهرات والاضطرابات المدنية منها "قاذفة حصى" تستطيع أن تقذف طناً من الحجارة الصغيرة في الدقيقة الواحدة. واستخدام آلة جديدة هي عبارة عن سيارة شحن عسكرية فيها عدة وسائل تستخدم في تفريق المظاهرات، منها فوهتا مدفع تطلقان دفعات من الحصى والكريات الصغيرة وبالونات الأحماض في جميع الاتجاهات. وإلى جانب الفوهتين توجد بندقيتان من طراز "جاليلي" تطلقان دفعات من قنابل الغاز المسيل للدموع. وعلى جانب الجناحين الأماميين للسيارة نصب جهازان يطلقان قنابل دخانية خاصة، وفي مقدمة السيارة ذراع حديدية تستخدم لإزالة الحواجز الحجرية والإطارات المشتعلة. والله أعلم.