يستند الوجود الصهيوني إلى العنف، إذ إنه يهدف إلى التخلص من أصحاب الأرض وإحلال آخرين محلهم، وهي عملية لا يمكن أن تتم بالوسائل السلمية لأسباب إنسانية معروفة. والكيان الصهيوني غُرس غرساً في فلسطين ليلعب دوراً قتالياً ضد المنطقة العربية. وعلى مستوى من المستويات يمكن القول إن المشروع الصهيوني كان يهدف إلى نقل الفائض البشرى اليهودي من أوروبا إلى فلسطين وتحويله إلى "مادة قتالية" تخدم المصالح الغربية. ولكل هذا تكتسب كل الظواهر الصهيونية ابتداء من الزراعة وانتهاء بالتلفزيون بعداً عسكرياً، ولذا فالقوة العسكرية الصهيونية تُشكل العمود الفقري للمشروع الصهيوني، فهو يكتسب شرعيته الصهيونية وشرعية وجوده منها. وكما قال "ييجال آلون"، نائب رئيس الوزراء الإسرائيلي، في مؤتمر القدس لأصحاب الملايين اليهود يوم 29 يونيو 1969: "لا يتحقق الأمن الإسرائيلي عن طريق المناطق المنزوعة السلاح ولا بالبوليس الدولي ولا بضمانات الدول أو الهيئات الدولية وإنما بالأرض". ثم يُعرّف هذه الأرض بأنها القنوات (أي قناة السويس) والممرات والأنهار (أي نهر الأردن) والمرتفعات (أي الجولان). ثم يلخص الموقف كله بقوله: "إن الأمن يتحقق بالاستيطان المسلح". وقد أحرز الاستيطان المسلح في فلسطين قدراً لا بأس به من النجاح، وبالتالي حصل على قدر من الشرعية أمام يهود العالم وجماهير المستوطنين والعالم الغربي. ولكن ابتداء من حرب عام 1973 بدأ إيمان المستوطنين الصهاينة بالعجل الذهبي -أي الجيش الإسرائيلي- في الاهتزاز ثم في التآكل، ثم جاءت عملية غزو لبنان التي انتهت بانسحاب القوات الإسرائيلية دون أن تحقق ما كانت تهدف إليه، أي "القضاء بشكل نهائي على منظمة التحرير". ولم تتوقف العمليات الفدائية البتة، وكان من أهمها وتاجها عملية "قبية" التي بينت بشكل لا يدع مجالاً للشك أن الذراع القوية لجيش الدفاع (!) ليست قادرة بالضرورة على حماية المستوطنين الصهاينة، وتوفير الأمن المطلق لهم. ثم جاءت ثورة الحجارة لتبين مدى عجز جيش الدفاع عن القيام بالعمليات الجراحية والضربات الإجهاضية التي تُسكِت الآلام مرة واحدة. وتبعتها انتفاضة الأقصى المسلحة ثم الانسحاب من جنوب لبنان، ثم أخيراً الحرب السادسة، التي فضحت جيش الدفاع الذي ادعى أنه لا يُقهر أمام نفسه وأمام المستوطنين الصهاينة، بل وأمام راعيه الإمبريالي، أي الولايات المتحدة. ويمكن القول إن استمرار الاحتلال في الضفة الغربية وغزة ما يزيد عن أربعين عاماً كان من الصعب الدفاع عنه، باعتباره دفاعاً عن النفس. ولذا شهدت القوات العسكرية الإسرائيلية لأول مرة في تاريخها ظواهر احتجاجية مختلفة، جديدة عليها كل الجدة مثل رفض الخدمة العسكرية تماماً، أو رفض الخدمة في الضفة الغربية وغزة أو زيادة نزوح أبناء الكيبوتسات، العمود الفقري للمؤسسة العسكرية واحتياطيها الحقيقي، بل زيادة نزوح أفراد من القوات المسلحة ذاتها. وقد أخبرني اللواء حسن البدري -رحمه الله- مؤرخ الجيش المصري، أن الجيش الذي يقوم بقمع عصيان مدني يفقد مقدرته القتالية، ثم أضاف ضاحكاً: ما يحدث هو أن الجندي ينسى كيف يستخدم بندقيته، وإن استخدمها فهو يستخدمها بالمقلوب. ولا يختلف رأي اللواء حسن البدري عن "أوري ساجوري" (رئيس القوات البرية) حسبما جاء في الـ"جيروزاليم بوست" (ملحق 30 يناير 1988) الذي قال إن استمرار الانتفاضة سيؤدي إلى تزايد فقدان جيش الدفاع للمقدرة القتالية. كما أن الانتفاضة أدت إلى توقف أو تعطيل برامج التدريب، وقد اشتكى أحد الضباط الإسرائيليين من أنه لا يقوم بأداء ما دُرِّب عليه، ولا يقوم بتدريب الجنود ليقوموا بما ينبغي عليهم القيام به (تايم 15 فبراير 1988). وأعلن رئيس أركان حرب الجيش الإسرائيلي "عل همشمار" 3 يناير 1988، في مقال لـ"آربية بالجي" يحمل عنوان "جنوب أفريقيا وصلت هنا بالفعل": أن الجيش سيبدأ برنامجاً لإعادة تدريب الجنود على طرق حفظ الأمن في المناطق، ويقول كاتب المقال إن هذا يعني تحول إسرائيل إلى جنوب أفريقيا. والاستنتاج الأخير يهمنا كثيراً، فمن وجهة نظرنا لا يوجد فارق نوعي بين الجيبين الاستيطانييْن، ولكن ما يهمنا هو أن الجيش الإسرائيلي سيفقد قدراً كبيراً من مقدرته القتالية بسبب قيامه بالعمليات الأمنية، وهذا أمر معروف لدى المفكرين العسكريين. وقد عبر الأستاذ "إسحق غالنور"، وهو أستاذ في العلوم السياسية بالجامعة العبرية وضابط احتياطي برتبة رائد في الجيش الإسرائيلي، عما هو متوقع بقوله: "سيخرج الجنود الإسرائيليون من الأراضي المحتلة وقد نسوا كيفية استخدام البندقية وماسورتها إلى الأمام، بعد أن تعودوا على استخدامها بشكل معكوس في الضرب (نفس ملحوظة اللواء البدري) (وول ستريت جورنال عن القبس 22 أبريل 1988). وقد لاحظ "دان راكين" في مقال بعنوان "الجنود يلقون الحجارة وزجاجات الكولا" معاريف 25 فبراير 1988، أنه عندما تزداد كثافة الحجارة يستخدم الجنود نفس سلاح العرب: "يقومون برشق السكان بالحجارة والزجاجات الفارغة". وقد لخص العقيد "عمانوئيل فالد" حالة المادة القتالية الصهيونية بعد الانتفاضة الأولى في تقرير له عن الجيش الإسرائيلي قدّمه لمكتب وزير الدفاع، ولكنه قوبل بفتور بدعوى أن المقترحات التي يقدمها ليست عملية، وبعد أن وقع عقداً مع مركز الأبحاث الاستراتيجية في إسرائيل لإعداد البحث أُلغِي العقد، ولكنه نشر رأيه في نهاية الأمر في كتابه "لعنة الأواني المكسورة"، والذي قال فيه: "إنه ليس أمام إسرائيل من احتمال عسكري في المستقبل إذا ظل الجيش الإسرائيلي يسير في الطريق التي يسير فيها حالياً". ويؤكد أن دولة إسرائيل تعيش في "زمن مستعار" وأن مؤسستها العسكرية "تسير نحو الضياع"، وينتقل "فالد" من التعميم إلى التخصيص فيقول: "إن قادة الجيش يعانون من نقص واضح وظاهر في الاهتمام والفهم والتقنية في الحرب بصفة عامة وفي الاستراتيجية بصفة خاصة، ويسود بينهم عداء لأي مبادرة في المجال الفكري، وهم يفتقرون إلى التفكير الاستراتيجي السياسي. فهذا جيل من أنصار حكومة التكنوقراط، تحول إلى أداة طيّعة في يد المؤسسة العسكرية". ثم يشير "فالد" إلى بعض الظواهر السلبية التي نشأت في السنوات الأخيرة في الجيش الإسرائيلي. مثل "نمو القيادات واتساعها على حساب القوة المقاتلة. فالذي يحظى بأفضلية كبيرة في الجيش الإسرائيلي، فعلاً، هو القيادات والخدمات والإدارات المختلفة، وليس المقاتلين، وذلك على حساب السلك المقاتل، الذي انخفضت نسبته في حجم القوات. وهذا اتجاه عام ومتوقع في كل القوات المسلحة الغربية مع تزايد معدلات العلمنة والاستهلاكية التي تتطلب توفير معدلات عالية من الراحة للمقاتل، خاصة أنه عادة ما يخوض حروباً غير أخلاقية، الأمر الذي يؤدي إلى تزايد قطاع الخدمات داخل القوات المسلحة. وقد اتضحت هذه الظاهرة بشكل درامي أثناء الحملة الأميركية على لبنان والتي تزامنت مع الحملة الأميركية على جيرنادا. وكلا الحملتين كانتا صغيرتين للغاية، ومع هذا اشتكت القيادة العسكرية الأميركية من أن مصادرها الضخمة مرهقة، لأن كل جندي مقاتل يحتاج إلى كم هائل من الخدمات المساندة وعملية تغطية رهيبة. ولعل هذا هو "كعب أخيل" في آلات القمع القتالية المتقدمة: أن قمتها القتالية لابد أن تساندها قاعدة ضخمة مركبة يمكن إرهاقها بسرعة نظراً لضخامتها. والله أعلم.